غير صحيح
في ظلّ الانهيار المالي المتواصل الذي يعيشه لبنان منذ العام 2019، باتت مسألة مصير ودائع المواطنين في المصارف واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل والقلق، وسط غياب الثقة بالمؤسسات النقدية والرقابية، وتضارب التصريحات الرسمية بشأن صون حقوق المودعين.
في هذا السياق، بدأ يتردد في النقاش العام مصطلح "Bail-in"، أي تحويل الودائع إلى أسهم في المصارف المتعثرة، كوسيلة محتملة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. ما يطرح تساؤلات حول شرعية أي إجراء من هذا النوع في ظلّ غياب الإطار التشريعي اللازم، وما إذا كان يتم التحضير لتحميل المودعين كلفة الأزمة من دون مساءلة سياسية أو قانونية واضحة، كما ورد على لسان الخبير ميشال قزح حول هذه الآلية.
فهل يحق للمصارف تحويل الودائع إلى أسهم (Bail-in) من دون وجود قانون صريح صادر عن مجلس النواب؟
في لبنان، أصبح مصطلح "Bail-in" مطروحًا بشدة في النقاشات المالية منذ الأزمة المصرفية التي تفجّرت عام 2019. وقد عاد إلى الواجهة مؤخرًا بعد موافقة الحكومة اللبنانية في 12 نيسان 2025 على مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف - الذي ما زال قيد النقاش في مجلس النواب، ولم يتحوّل بعد إلى قانون نافذ - والذي يتضمن آلية bail-in كأحد أدوات المعالجة.
والـ Bail-in هو آلية قانونية تُستخدم في حالات تعثّر المصارف أو إفلاسها، تسمح للسلطات التنظيمية بإجبار الدائنين والمودعين على تحمّل جزء من الخسائر عبر تحويل جزء من ديون المصرف (مثل الودائع أو السندات) إلى أسهم رأسمالية فيه. والهدف منها هو إنقاذ المصرف من الإفلاس من دون اللجوء إلى أموال الدولة أو دافعي الضرائب (كما يحصل في حالة الـ Bail-out)، وبالتالي تقليل كلفة الإنقاذ على المال العام.
سياق دستوري واقتصادي
في هذا الإطار، يوضح الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة، الدكتور كريم ضاهر في حديثٍ لـ"مهارات نيوز"، أنه من الضروري التمييز بين نوعين من آلية الـ Bail-in: الإلزامي والاختياري.
فالـ Bail-in الإلزامي، لا يمكن تطبيقه إلا بموجب قانون إطار يُقرّه مجلس النواب، كما هو مطروح حاليًا ضمن مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف. ويعود السبب إلى أن فرض تحويل الودائع إلى أسهم من دون موافقة أصحابها يُعدّ مسًّا مباشراً بالملكية الفردية، وهو ما يتعارض مع أحكام الدستور اللبناني، وتحديدًا الفقرة "و" والمادة 15، التي تنصّ على أن "الملكية في حمى القانون، ولا يجوز أن يُنزع من أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة، وفي الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه عنه تعويضًا عادلاً".
ويشدّد ضاهر، على أن أي قانون يسمح بتطبيق الـ Bail-in الإلزامي يجب أن يُبرَّر بوضوح في إطار "المصلحة الإقتصادية العامة"، كما حصل في التشريعات الأوروبية والفرنسية، حيث لم يُسمح بمخالفة أحكام الدستور وأحكام شرعة الإتحاد الأوروبي إلا تحت هذا العنوان.
أما الـ Bail-in الإختياري، فيُطرح كخيار طوعي من المصرف إلى المساهمين والمودعين، حيث يمكن أن يقترح المصرف زيادة رأس ماله عبر تحويل جزء من الودائع إلى أسهم، شرط موافقة الأطراف المعنية. إلا أن هذه الخطوة، وإن كانت طوعية، لا تُعفى من الضوابط القانونية، إذ أنها يجب أن تخضع مسبقًا لموافقة مصرف لبنان. فحتى في الظروف العادية، لا يمكن لأي مصرف زيادة رأسماله من دون موافقة مسبقة من السلطة الناظمة، وهو ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان تحويل الودائع إلى أسهم في الظرف الحالي يُعدّ تدبيرًا قانونيًا، أم إلتفافًا على حقوق المودعين أو حتى إجراءًا مجحفًا بحق المساهمين الأصليين، لأن فارق الزيادة قد يتحملها المودع.
ويشير ضاهر، إلى أن هذه العملية تصطدم أيضًا بتعاميم مصرف لبنان، وبالتحديد تعميم حاكمية مصرف لبنان رقم 169، الذي يمنع المصارف من تحرير حسابات المودعين المجمدة. وبالتالي، فإن استخدام هذه الحسابات في عملية الاكتتاب بزيادة رأس المال يُعدّ خرقًا واضحًا لأحكام هذا التعميم.
في السياق، يوضح الخبير في الشؤون الإقتصادية زياد ناصر الدين، في حديثٍ لـ "مهارات نيوز"، أن مفهوم "Bail-in" يُستخدم عادة في سياق إعادة هيكلة المصارف، ويقوم على تحميل المساهمين والدائنين كباراً وصغاراً جزءًا كبيرًا من كلفة إعادة رسملة المصارف المتعثرة. ويشير إلى أن هذا الإجراء، الذي يتضمن شطب جزء من الديون أو الودائع، وتحويل ما تبقى منها إلى أسهم في المصارف المعنية، يؤدي فعليًا إلى تغيير جوهري في طبيعة ما يملكه المودع.
ويعتبر ناصر الدين، أن ما يُطرح اليوم من استخدام لهذا النموذج يهدف إلى "إنقاذ" النظام المصرفي، لكن على حساب المودعين، لا سيما في ظلّ غياب وضوح بشأن حجم الفجوة المالية وتوزيع كلفتها. ويلفت إلى أن الخطة التي تناولتها وزارة المالية وصندوق النقد الدولي تتحدث عن إعادة ما يصل إلى 100 ألف دولار للمودعين، وفقًا لتعاميم مصرف لبنان، وتحويل ما يتجاوز هذا المبلغ إلى أسهم عبر آلية الـ Bail-in، متسائلًا: "هل ستكون هذه الأسهم ذات قيمة فعلية؟ وهل سيتمكن المودع من بيعها بعد عام أو أكثر؟".
كما ويبدي ناصر الدين شكوكًا بشأن قدرة المصارف اللبنانية، المثقلة بالخسائر، على إعادة الرسملة بشكل فعّال، وتساءل ما إذا كانت هذه المقاربة تنسجم مع المعايير النقدية الدولية، أو ما إذا كانت ستساهم في استعادة الثقة بالقطاع المصرفي، أم أنها ستعمّق حالة فقدان الثقة، خصوصًا في ظلّ غياب المساواة في التعاطي بين المودعين الكبار والصغار، بما فيهم أولئك الذين تشكل ودائعهم تعويضات نهاية الخدمة.
من جهته، يرى ضاهر أن تقييم آلية الـ Bail-in يجب أن يُبنى على معيارين أساسيين: الأول، ما إذا كان التطبيق سيتم دون موافقة المودع، وفي هذه الحالة لا بدّ من قانون يُقرّ أن الأزمة تُعدّ "نظامية" (Systemic Crisis) ويُبرّر المساس بالحقوق الفردية بموجب المصلحة الاقتصادية العامة؛ والثاني، ضرورة احترام مبدأ المساواة بين اللبنانيين المنصوص عليه في المادة السابعة من الدستور، التي تنص على المساواة بين "اللبنانيين بالحقوق المدنية والسياسية وتحمّل الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم"، فيما الواقع الحالي يشهد تفاوتًا صارخًا بين أصحاب "الفريش دولار" وأصحاب ودائع "اللولار".
وبالتالي، فإن اللجوء إلى الـ Bail-in من دون إطار قانوني واضح ومتين، يحمل مخاطرة كبيرة وفق ضاهر. إذ قد يجد المودعون أنفسهم في موقع الشركاء القسريين في مصارف متعثرة أو عاجزة عن الاستمرار، وفي حال إفلاس المصرف يخسر المودعون أموالهم بالكامل. وهنا، تصبح آلية الـ Bail-in أقرب إلى الاحتيال منها إلى خطة إصلاح مالي، خصوصًا إذا لم تكن مرفقة بضمانات رسمية من مصرف لبنان تؤكد أهلية المصرف المعني لإعادة الهيكلة والاستمرار.
ويلفت ناصر الدين بدوره، إلى غياب الشفافية في الإفصاح عن واقع المصارف وأرباحها، ما يطرح علامات استفهام حول الجدوى الفعلية من تحويل الودائع إلى أسهم: متى وكيف سيتمكن حملة هذه الأسهم من الاستفادة من الأرباح؟ وعلى أي أساس ستُوزع؟ ويؤكّد بأن القول إن الهدف من الـ Bail-in هو حماية الدولة "غير دقيق"، بل يبدو أن الغاية منه هو إعفاء الدولة من مسؤولياتها وإغلاق صفحة الانهيار من دون معالجة حقيقية لأسبابه.
ويشدّد على أن تطبيق نموذج الـ Bail-in يجب أن يكون جزءًا من مسار تشريعي واضح يضمن حقوق المودعين، من خلال إقرار قانون ينظم عمل المصارف، ويحمي أموال المودعين من التقادم أو التلاشي، وينص على آليات استردادها خلال فترات زمنية محددة (5 أو 10 أو 15 سنة).
خلاف حول توزيع الخسائر ومعايير المحاسبة
وفي ظلّ النقاشات المستمرة حول معالجة الأزمة المصرفية في لبنان، تبرز المفارقة بين مسارين متناقضين، يقول ضاهر. فالمصارف تميل إلى خيار الـ Bail-in، لأنه يخفّف عنها عبء المسؤولية المباشرة عن الخسائر، إذ يُحمّل المودعين والمساهمين تكلفة الإنقاذ، من دون محاسبة فعلية تُذكر.
في المقابل، ثمة مسار إصلاحي واضح المعالم يسعى إلى تقليص الفجوة المالية عبر تحميل الأطراف المسؤولة عن الأزمة وفي مقدّمتهم إدارات المصارف الكلفة الأساسية. هذا الطرح يستند إلى قوانين قائمة، أبرزها القانون رقم 110/91 والقانون رقم 2/67، اللذان يُحمّلان المدراء التنفيذيين في المصارف المسؤولية عن الأموال المفقودة، لا سيما في حالات الخطأ الجسيم أو الإهمال. ووفق هذا التصور، يُفترض أن يتحمّل المساهمون في المصارف الخسائر من ودائعهم، دون أن يُطلب منهم بالضرورة ضخ رساميل إضافية.
ويشدد هذا الطرح على ضرورة فتح تحقيقات جدّية مع الجهات المستفيدة من الأزمة، سواء في الإدارات العامة أو مصرف لبنان أو المصارف التجارية، وملاحقة المسؤولين بموجب قوانين نافذة لمكافحة الفساد، أبرزها:
- قانون مكافحة الفساد (رقم 175/2020)
- قانون الإثراء غير المشروع (رقم 189/2020)
- قانون استرداد الأموال الناتجة عن الفساد (رقم 214/2021)
- قانون رفع السرية المصرفية (رقم 306/2022)
- قانون التدقيق في عمليات الدعم (رقم 240/2021)
ويمكن لهذه الأدوات القانونية، إذا طُبّقت بجدّية، أن تُسهم في استرداد أموال منهوبة وتضييق الفجوة المالية التي تقدر بمليارات الدولارات.
إلى جانب ذلك، تُطرح مقترحات أخرى لسدّ جزء من الفجوة، منها استرجاع الأرباح غير المشروعة الناتجة عن سداد بعض القروض بعملة مغايرة لعملة القرض (بقيمة تقديرية تصل إلى 31 مليار دولار)، أو فرض ضرائب استثنائية على أرباح المستفيدين من منصة "صيرفة" ودعم الدولة، وهي أرباح تقدّر بحوالي 13 مليار دولار، ما يمثّل خطوات عملية لإعادة تكوين الودائع.
في المقابل، يتمّ الترويج لخطة مختلفة تقضي بتسوية الخسائر من دون محاسبة شاملة. وتقترح هذه الخطة تعويض المودعين حتى سقف 100 ألف دولار، على أن يتم لاحقًا دفع الودائع التي تتراوح بين 100 و500 ألف دولار، ما من شأنه أن يغطي نحو 88% من المودعين. أما كبار المودعين، فسيُقترح عليهم الحصول على أسهم في المصارف المتعثرة عبر آلية الـ Bail-in، أو يتم تسديد جزء من ودائعهم عبر سندات تصدرها الدولة أو مصرف لبنان، على أن تُموّل لاحقًا من أموال يُفترض استردادها من ملفات فساد أو من إيرادات محتملة من قطاع الغاز. وفي هذا السياق، يُطرح السؤال الجوهري: هل يثق المودع اللبناني اليوم بالمصارف المحلية، حتى لو تحوّل إلى شريك فيها؟
إذاً، إن الإشكالية المطروحة غير صحيحة، إذ لا يحق للمصارف في لبنان قانونًا تحويل الودائع إلى أسهم عبر آلية الـ Bail-in، من دون وجود قانون صريح صادر عن مجلس النواب يُجيز ذلك في إطار دستوري محكم ومبرر بالمصلحة العامة.