Loading...

القطاع الصحي في الشمال يترنّح تحت وطأة انسحاب الدعم الخارجي

 

يعيش القطاع الصحي في لبنان واحدة من أشدّ أزماته، بعدما بدأ انسحاب التمويل الدولي يأخذ طابعًا واسعًا، في ظلّ غياب بدائل محلية أو دولية قادرة على سدّ الفجوة. فقد شكّل وقف المساعدات الأميركية في مطلع العام الجاري ضربة قاسية، زادت من هشاشة النظام الصحي، وهددت بتوقف خدمات أساسية لمئات الآلاف من المرضى.

 

بموجب القرار التنفيذي رقم 14169، علّقت الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب أكثر من 80% من برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) حول العالم، لتتوقف بموجبه مساعدات مباشرة إلى لبنان بلغت قرابة 643 مليون دولار في عام 2023. 

 

كان لهذا التوقف نتائج سلبية وعكسية على عمل المراكز الصحية في لبنان، إذ انعكس بشكل مباشر على المرضى والطواقم الطبية، في وقت لم يتضح فيه بعد ما إذا كان النظام الصحي الهش قادرًا على الصمود أمام موجة جديدة من الانهيار.

 

مراكز صحية على حافة الانهيار

"فجأة توقف كل شيء... بنتي ما بقى عندها أي جلسة، وأنا مش قادرة أتحمل كلفة العلاج وحدي". بهذه الكلمات تختصر والدة طفلة تبلغ من العمر 12 عامًا معاناتها بعد توقف التمويل في مركز "ريستارت" الذي كانت تقصده ثلاث مرات أسبوعيًا للعلاج. الطفلة تعاني من ضمور دماغي وفرط حركة وكانت تتلقى جلسات نطق، دعم نفسي وتأهيل حسي حركي مجاني، إلى جانب تأمين أجرة النقل من منطقة البترون. لكن، كما مئات العائلات، وجدت الأم نفسها فجأة وحيدة في مواجهة عبء الرعاية الصحية، من دون دعم، ومن دون بدائل.

 

قصة هذه الأم ليست استثناء. بل هي نموذج عن واقع قاتم يتهدد مراكز الرعاية الصحية الأولية في لبنان، حيث تتقاطع أزمات التمويل مع هشاشة البنية التنظيمية وانهيار الاقتصاد. من طرابلس إلى بيروت، ومن الأحياء الشعبية إلى الأرياف، يتكرّر المشهد: مراكز تقلص خدماتها، أطباء يغادرون، ومرضى يواجهون خطر الإقصاء عن أبسط حقوقهم في العلاج.

 

مركز الإيمان نموذجًا

في مدينة الميناء، يروي مدير مركز "الإيمان"، الأستاذ جهاد عبد الرحيم فهمي، في حديث لـ "مهارات نيوز"، كيف أدى توقف التمويل الخارجي إلى خفض الخدمات بنسبة 50%. كان المركز يوفر معاينات، تحاليل، صور أشعة، ودعمًا تأهيليًا لذوي الاحتياجات الخاصة. اليوم، بالكاد تستمر بعض الخدمات، وضمن تمويل محدود يُصرف مرتين سنويًا، يغطي الصحة العامة، النسائية، والأمراض المزمنة.

 

 

رغم استمرار خدمات مثل متابعة الحمل، التلقيح، وبعض صور الأشعة (RX وECO)، توقفت كليًا خدمات الـ IRM و الـ Scanner، فيما اختفت برامج الدعم الحسي والحركي لكبار السن وذوي الإعاقة، بعدما رُفع عنها التمويل كليًا. وبالنتيجة، تراجع عدد المستفيدين من 2000 إلى نحو 1000 مريض شهريًا، مع توقعات بتوقف شبه تام للخدمات بحلول أيلول إذا لم يُجدد التمويل.

 

ويوضح فهمي أن آليات التمويل تختلف بين الفئات المستفيدة، فتمويل خدمات الأطفال يختلف عن تمويل النساء الحوامل، وعن تمويل الأمراض المزمنة. ويشير إلى أن نموذج الدعم المطبق لا يأخذ بالحسبان الواقع الصحي والبيئي المحلي، حيث تتسبب الظروف المناخية وتلوث المياه والهواء بزيادة نسب الإصابة بالأمراض، لا سيما بين كبار السن والأطفال.

 

ووفق فهمي، يتقاضى الطبيب ما بين 2.5 و3 دولارات فقط عن كل معاينة، بناءً على الأنظمة والقوانين التنظيمية التي تطبّقها وزارة الصحة، والتي كانت قد وُضعت في ظروف اقتصادية كانت فيها الليرة اللبنانية أكثر استقرارًا والدولار عند سعر ثابت، ولكنها لم تعد تلائم الواقع المالي المتدهور اليوم. وحتى المساعدات الأوروبية التي كانت تدفع 7 دولارات للمريض تراجعت إلى 3.5، ما جعل التكاليف التشغيلية عبئًا دائمًا. "النموذج الأوروبي لا يصلح لبلد مثل لبنان، حيث الأمراض منتشرة وظروف الناس قاسية"، يقول فهمي. وهو يرى أن التحدي يكمن في ربط الدعم المالي بالواقع الصحي لا بالمقاييس النظرية.

 

نتيجة لذلك، اضطر المركز إلى تقليص عدد الموظفين من 17 إلى 10، في وقت غادر بعض الأطباء العمل أو هاجروا. فالرواتب المتدنية لا تكفي للمعيشة، خصوصًا في ظلّ التضخم وتدهور قيمة الليرة. ويضيف: "باتت قيمة 100 دولار اليوم غير كافية لتغطية تكاليف أساسية للعاملين، ما يضع استمرارية الكوادر أمام خطر حقيقي".

 

مراكز أخرى... قصص متشابهة

الحال نفسه ينطبق على مستوصف الحريري (مركز طرابلس الطبي)، حيث تُتوقع نهاية التمويل كليًا مع نهاية آب. رغم ذلك، تحاول الإدارة الصمود عبر تقديم خدمات جديدة مثل طب العيون والعلاج الفيزيائي، وتأمين معدات طبية من جمعيات خيرية تُستخدم بأسعار رمزية، في محاولة لملء الفراغ التمويني وتوسيع قاعدة المستفيدين. وتعمل الخطة البديلة للمركز على تعويض النقص في الموارد من خلال رفع عدد المستفيدين عوضًا عن رفع الأسعار.

 

أما في مستوصف "الإخلاص"، فتوضح المديرة فاطمة الحلوة في حديث لـ "مهارات نيوز"، أن التمويل توقف منذ شهر تقريبًا. "لم نرفع الأسعار رغم الظروف، لأننا نضع مصلحة المريض أولاً"، تقول الحلوة، مضيفة أن المركز لا يزال يقدم خدماته بنفس التكاليف السابقة، بين 150 و300 ألف ليرة، مقارنة بـ800 ألف أو أكثر في العيادات الخاصة. لكن هذا الخيار له ثمن، تضرر دخل العاملين، وتراجع بعض الخدمات الأساسية، مثل التحاليل والصور الشعاعية.

 

رغم التحديات، تُصر إدارة المستوصف على الحفاظ على كامل طاقمها، أقله في المدى القريب، في محاولة لحماية الاستمرارية المهنية والمعنوية للمؤسسة. وتختم الحلوة بالقول: "نحن نعمل من أجل الناس، خصوصًا في منطقة التبانة، التي تعاني من أعلى معدلات الفقر والحرمان".

 

وزارة الصحة: أولوية للاستمرارية رغم الأزمة

من جهتها، تعترف وزارة الصحة بأن أزمة التمويل ليست طارئة. فمنذ العام 2019، ومع انهيار سعر الصرف وتراجع الموازنة، بدأت الوزارة العمل مع شركاء دوليين كمنظمة الصحة العالمية واليونيسيف لتعويض النقص. لكن، وكما تؤكد الوزارة، فإن هذه الجهات تواجه بدورها تحديات مالية، ما يجعل المعادلة أكثر تعقيدًا.

 

في موازاة ذلك، تسعى الوزارة إلى حماية الفئات الأكثر ضعفًا: الأطفال، النساء، وكبار السن، مع الإبقاء على شبكة الرعاية الأولية فاعلة، وتأمين جزء من كلفة الاستشفاء للمواطنين غير المضمونين. وتعمل على مشاريع واعدة مثل "التغطية الصحية الشاملة"، بالتعاون مع الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية في بيروت، لتقديم استشارات وفحوصات على مستوى الأسرة، بهدف تحسين الوقاية والكشف المبكر.

 

وتؤكد الوزارة في بياناتها أن شبكتها من مراكز الرعاية الأولية لا تزال تعمل على مختلف الأراضي اللبنانية، وتقدّم خدمات تشمل التحاليل المخبرية، صحة الأم والطفل، متابعة الأمراض المزمنة، والصحة النفسية. وتغطي الوزارة جزءًا من فاتورة الاستشفاء في المستشفيات الحكومية وبعض الخاصة، بما يضمن الحد الأدنى من العدالة الصحية.

 

بصيص أمل

رغم الصورة القاتمة، تُعطي جمعية الشبان المسيحيين (YMCA) بارقة أمل، إذ لا تزال تغطي أدوية الأمراض المزمنة لنحو 1500 مريض شهريًا في بعض المراكز، ما يشكل شريان حياة حيوياً للعديد من المرضى، في ظلّ ارتفاع أسعار الدواء وغياب البدائل.

 

ما يجري اليوم في مراكز الرعاية الصحية ليس مجرد تراجع في الخدمات، بل انهيار تدريجي لمنظومة كانت تشكّل العمود الفقري للرعاية المجانية وشبه المجانية في لبنان. ومن دون تدخل تمويلي سريع، وإصلاح جذري في آليات العمل والشراكات، يخشى كثيرون أن تتحوّل هذه المراكز إلى مبانٍ فارغة، وأن يُترك آلاف المرضى لمصيرهم الصحي المجهول.