أمرٌ وحيدٌ يُمكن أن يقلب هذا المشهد المأساوي، وهو انخراط الدّولة اللبنانيّة في مسار التحوّل الرقميّ، في وقتٍ بدأت تتسلّل فيه ملامح هذا التحوّل رويداً رويداً الى بعض المؤسّسات العامّة والوزارات، فقد أطلقت وزارة الاقتصاد خلال العامين الماضيين مجموعة من الخدمات الإلكترونيّة عبر منصّة تُتيح للمُستخدمين إنجاز معاملات أساسيّة عن بُعد. فهل من تحدِّيات تواجه هذه المُبادرة؟ وأين أصبح لبنان في مسيرة التحوّل الرقمي؟ وما العقبات التي تحول دون تطبيق المكننة بصورة شاملة في لبنان؟ وما المطلوب اليوم للوصول الى هذا الهدف؟
يحملُ تطبيق وزارة الاقتصاد اسم MOET، ويُمكن تحميله على مُختلف الهواتف والأجهزة اللوحيّة المحمولة ويُخوّل المواطن الاستفادة من سلسلة خدمات من الوزارة كتقديم شكاوى ومعاملات لأصحاب الأعمال والمحترفين، وطلب ترخيص أسواق ومعارض وغيرها من الخدمات المتعلّقة بالاستيراد وبمجالات أخرى. وبعد تصفّحه بالكامل، تبيَّن أنه سهل الاستخدام من قبل المواطنين، ويخضعُ للتحديث الدّائم، ولكن جملة تساؤلات تُطرح حول هذا التطبيق لناحية تمويله، واستمراريته، وتدريب الموظفين للعمل عبره.
منصّة على "قياس عمل الموظّفين"
يقول مدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة الدكتور محمّد أبو حيدر في مقابلة مع موقع mtv إن "تمويل المنصّة هو من الـUNDP على مدى 3 سنوات تُدعم خلالها كلّ التفاصيل المتعلّقة بتأمين عمل التطبيق من الناحية التقنيّة والتراخيص المطلوبة، مع العلم أنه تمّ إنشاء المنصّة لتتماشى مع كيفية سير العمل في الوزارة أو "على قياس" عمل الموظفين الذين خضعوا للتدريب اللازم لكي يتعاملوا مع كلّ المعاملات والشكاوى الرقميّة بسرعة كبيرة ودقّة عالية، وقد لاحظنا أنّ ديناميّة العمل باتت أسرع بكثير من قبل بفضل هذا التطبيق"، كاشفاً أنه "تمّ أيضاً تدريب بعض أصحاب المهن، كنقابة أصحاب الصهاريج مثلاً على كيفية استعمال المنصّة".
ويُتابع أبو حيدر "أهمية هذه المنصّة تكمن في أنه يمكن ربطها بنظام رقميّ شامل للدّولة اللبنانيّة متى تحقّق هذا المشروع، والتحدّي اليوم هو في تأمين تمويل عمل المنصّة وصيانتها بعد انتهاء الأعوام الـ3، أي بعد عامٍ تقريباً، والعمل يجري على تخصيص مبالغ ضمن موازنة الوزارة في السنوات المقبلة لهذا الغرض".
أكثر من 80 في المئة مكننة
يؤكد أبو حيدر أنّه "بعد أكثر من سنة على مكننة عمل مديريّة حماية المستهلك وما يُقارب 18 خدمة، أُضيفت عليها أخيراً 3 خدمات جديدة تتعلّق بمصلحة التجارة، وأصبح لدينا ما يُقارب اليوم 21 خدمة سمحت للعديد من التجّار تقديم طلب تأشير البيانات الجمركيّة للاستيراد وطلب إخراج البضائع، وطلب إعادة تحليل عيّنات، وطلب سحب عيّنات وطلبات تتعلّق بموضوع شهادة الكيل، وغيرها من الخدمات".
ويشرح أبو حيدر أنّ "ابن الشمال وابن الجنوب وابن البقاع ليسوا بحاجة للذّهاب الى بيروت لتقديم شهادة الكيل مثلاً، وبات بإمكانهم الاستفادة من هذه الخدمة الكترونيّاً. نحن أمام مشروع مكننة وفَّر على الناس ثلاثة أمور أساسيّة: أوّلاً هدر الوقت، ثانياً، الكلفة الماليّة وخصوصاً كلفة التنقّل، وثالثاً، الحصول على موافقة سريعة عبر رابط على هاتف المواطن، والأهم أنّه يُراقب ويتابع أين أصبحت معاملته وكيف تحرّكت بين الأقسام ضمن المهلة المطلوبة، وفي حال وجود مستندٍ ناقصٍ في الملفّ، تصله رسالة تُفيده بذلك".
وفي خطوةٍ جديدة تعكس توجّه الوزارة نحو إدارة أكثر شفافيّة وسرعة وكفاءة، يكشف أبو حيدر أنّ "هناك مشاريع جديدة لمكننة كليّة لمصلحة الملكيّة الفكريّة، من تسجيل علامات تجاريّة لبراءات الاختراع للأثر الأدبي والفني، وحقوق الملكيّة الفكرية وغيرها، وبالتالي سيُصبح تسجيل هذه الخدمات إلكترونيّاً بالكامل، والأهم خدمة الدفع ستُصبح أيضاً متاحة إلكترونيّاً، ما يوفّر أيضاً على المواطن عناء الذهاب الى الوزارة لتأمين سير المعاملة".
ويلفت الى أنّ "ما يُقارب 22 خدمة بدأنا العمل على مكننتها مع برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، ومن المتوقّع مع بداية العام المقبل أن نكون قد أضفنا على الخدمات السّابقة هذه الخدمات في المصلحة، ونكون بذلك تجاوزنا تقريباً نسبة 80 في المئة لناحية مجمل الخدمات الممكنة في الوزارة، مع العلم أنه تمّ تقديم 9402 طلباً منذ بداية مشروع المكننة، وتم إنجاز 8889 معاملة الكترونيّاً".
المعاناة مُستمرّة... والتوقيع الالكتروني قريباً؟
تتعدّد المُبادرات الفردية على الصّعيد الرقمي في الدّولة اللبنانيّة، إلا أنّ معاناة المواطن لا تزال مُستمرّة. ساعاتٌ طويلة يُمضيها في المؤسّسات العامة، نقصٌ في الموظّفين الإداريّين، صعوبةٌ في الولوج إلى المنصّات المُستحدثة في ظلّ ضعف التسويق لها ولكيفيّة استعمالها وغياب ثقة المواطن بأنّ ما تقوم به الدولة من مشاريع هو فعلاً لخدمته، فضلاً عن عدم وجود نظام الكتروني موّحد لمختلف الإدارات العامة.
وفي سياق التحديات وحلولها، يقول أبو حيدر "نأمل أن نصل الى ما نسمّيه "الشبّاك الموحّد" لتخفيف عناء المواطن بتسجيل طلبه في مكان واحدٍ وبين مُختلف الوزارات إلكترونياً، ويحصل عبره على موافقات عبر رسائل نصيّة".
وفي هذا الإطار، يُذكر أنّه تم إقرار "الإستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2020-2030" بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 65 بتاريخ 12 أيّار 2022 بهدف بناء "جمهورية رقمية" حديثة تخدم المواطن وتسهّل معاملاته، إلا أنّ جلّ ما تحقّق على أرض الواقع هو إطلاق بعض المشاريع "الفرعيّة" بمبادرات "خاصّة" في مؤسّسات الدّولة من دون نظام حقيقي يربط بينها. فهل يكون التوقيع الإلكتروني المدخل نحو الحلّ؟
من هنا، يُناشد أبو حيدر "وزير الصناعة جو عيسى الخوري الذي يبذل جهداً كبيراً لتشكيل المجلس الأعلى للاعتماد، للإسراع بتشكيله لأنه المولج إعطاء الصيغة القانونيّة للتّوقيع الالكتروني، وبالتالي عندما يتحقق هذا التوقيع، المواطن ليس بحاجة لزيارة أيّ وزارة أو مؤسّسة للتوقيع واستلام الملف، وبهذه الخطوة يمكنه التّوقيع من منزله عبر نموذجٍ مصدّق وفق الأصول ومعتمدٍ لدى الوزارات المعنيّة، وبذلك نقول للمواطن من حقّك الحصول على خدمتك من منزلك دون منّة من أحد".
عقبات وتحدّيات كثيرة
في مقابل التطوّر الجزئي الحاصل، ما زالت الكثير من العقبات الكبيرة تعرقل المسار الكامل للتحوّل الرقمي في لبنان، يختصرها أبو حيدر مُعتبراً أن "أبرز العقبات هي مشكلة البنى التحتيّة التي نحن بحاجة لها كوزارات من خدمة الانترنت الى بعض الإجازات والرّخص المطلوبة".
ويتقاطع حديث أبو حيدر مع قراءة الخبير في التحوّل الرقمي فريد خليل الذي يشير عبر موقع mtv إلى أنّ "جملة مشاكل تُعيق المكننة الكاملة في لبنان أهمها البنية التحتيّة كضعف خدمة الإنترنت وعدم حمايتها فضلاً عن وجود إنترنت غير شرعي، كما أن لا بنية تحتية مجهّزة للاقتصاد الرقميّ ولحفظ داتا اللبنانيّين، ولا تعاونَ بين مختلف الوزارات على الصّعيد الرقميّ وهو ما يمنع الوصول الى الهوية الالكترونيّة".
ويضيف خليل أنّ "هناك محاولات خجولة للتقدّم على الصعيد الرقمي وقد برزت خطوة إنشاء وزارة للتكنولوجيا، بالإضافة الى جهود وزارة الاتصالات خصوصاً على صعيد تحسين خدمة الانترنت، ولكنّها خطوة صغيرة في مسيرة طويلة يجب أن تحصل".
أين مكانة لبنان في المنطقة في ظلّ التحوّل الكبير الحاصل؟ يُجيب خليل: لبنان متأخرٌ جدّاً لناحية المكننة الشّاملة مقارنة بمحيطه العربي، فمثلاً الإمارات والسّعودية هما خير نموذج للحوكمة الالكترونيّة الرائدة، وأصبحت الدولتان في مرحلة متقدّمة لناحية إدخال الذكاء الاصطناعي على كافة الدوائر الحكوميّة، وقامتا باستثمارات بمئات ملايين الدولارات في إطار تعاونٍ مع شركات تكنولوجيّة كبرى.
الأهم في هذه الدول المتطوّرة هو ما يُعرف بـ Digital ID للمواطن أيّ الهوية الالكترونيّة التي تخوّله أن ينجز مختلف معاملاته في الدّولة الكترونيّاً، وفق خليل الذي يجزم أنّ "المكننة مهمة جدّاً لمحاربة الفساد في لبنان بنسبة تقارب الـ90 في المئة لأنها تمنع الرّشاوى واحتكاك المواطن مع الموظّف، وتوقف منطق "المحسوبيّات"، وتُساهم في خفض عدد الموظفين، والأهم يبقى تحدّي تدريب الكوادر البشريّة في مؤسّسات الدّولة للعمل على الأنظمة المتطوّرة. مشروع المكننة الكامل غير مستحيل إذا توفّرت الإرادة السياسيّة الجامعة والشّاملة".
صفر مواطن في الوزارة... نحو شفافية وثقة أكبر
تُشكّل المكننة في مؤسّسات الدولة اللبنانية خطوة أساسيّة نحو ترسيخ مبدأ الشفافيّة الماليّة واستعادة ثقة المواطن بدولته. فحين تصبح المعاملة إلكترونية، تُزال الحواجز بين المواطن والموظف، وتُغلق الأبواب أمام المحسوبيّات والرشاوى.
"رغبتي أن نصل الى وقتٍ لا مواطنين فيه في الوزارة، وأن يستحصل فيه المواطن على خدمته من دون أن يقصد الوزارة، هكذا نُسرّع الانخراط في التحوّل الرقمي المطلوب في تطوّر الاقتصاد العالمي وهو ما تشهده كلّ دول العالم"، يُعلن أبو حيدر، موضحاً أن "لبنان بحاجة لاستعادة الثقة، ثقة المجتمع الدوليّ به وثقة المواطنين بمؤسّسات الدّولة. التحوّل الرقمي يُساعد في استعادة هذه الثقة عبر حصول المواطن على خدمته من أيّ مؤسّسة في الدّولة من دون أن يتواصل مع أيّ مسؤولٍ أو وزيرٍ أو مديرٍ عامّ أو موظّف، وهذا ما نسعى له".
النظام الرقميّ لا يعرفُ واسطة ولا رشاوى ولا انتظاراً في الطوابير، بل يعتمدُ على بيانات دقيقة ومسارٍ واضح يمكن تتبّعه بسهولة. ورغم التحدّيات الكبيرة أمام لبنان، تبقى كلّ خطوة صغيرة في هذا المجال مُساهمة كبيرة في نقل بلدنا إلى الفضاء الإلكترونيّ الواسع، في وقتٍ جُلّ ما يأمل فيه اللبنانيّون هو أن يستعيدوا ذرّة من إيمانهم بأن دولتهم، إذا ما أرادت، هي قادرة أن تكون متطوّرة، شفّافة، وقريبة منهم.
تجدون مرفقًا فيديو نتصفّح فيه مختلف خدمات تطبيق وزارة الاقتصاد: (اضغطوا على الصورة)
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI. وتم نشر التقرير بالتزامن مع موقع MTV الإلكتروني.
TAG : ,وزارة الاقتصاد ,تطبيق ,حوكمة ,شفافية ,الادارة الذكية ,الرقمنة ,نظام رقمي