في وقتٍ شاهد فيه العالم بأسره كيف أطاحت مناظرة تلفزيونية بين دونالد ترامب وجو بايدن الأخير من السباق الرئاسي الأميركي، ودفعت بالحزب الديموقراطي إلى استبداله بمرشحته كامالا هاريس، تبرز مفارقة لافتة في لبنان، حيث لا تزال ثقافة المناظرة غائبة عن المشهد الانتخابي، حتى في الاستحقاقات البلدية التي يُفترض أن تكون محورها البرامج والخدمات.
في النموذج الأميركي، تُعد المناظرة لحظة حاسمة، يُحاسَب فيها المرشحون على برامجهم، وتُتاح للناخبين فرصة تقييم كفاءتهم ومشاريعهم بصورة مباشرة. أما في لبنان، فالمناظرة تكاد تكون معدومة، وسط هيمنة منطق الزعامة، والعصبيات العائلية والطائفية، وتقاطع المصالح الحزبية، ما يجعل “الزفت الانتخابي” نموذجاً مختزِلاً للعلاقة بين المواطن والمرشح.
ولفهم أسباب هذا الغياب، قال الخبير في المناصرة عماد بزي، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، إن الفكرة المتصورة عن المناظرة كـ”مبارزة كلامية” أو “معركة تسجيل نقاط” مأخوذة إلى حد كبير من التقليد الأميركي الذي انطلق في ستينيات القرن الماضي مع التغطية التلفزيونية المكثفة، لكنها في الأصل شكل من أشكال الشفافية والمساءلة التي ترهب المرشحين أكثر مما تحفّزهم.
وأوضح بزي أن “غياب ثقافة الديموقراطية التشاركية” يشكّل العائق الأول أمام تعميم المناظرات، فالديموقراطية في لبنان غالباً شكلية، مقتصرة على الاقتراع، من دون وجود أدوات حقيقية للمحاسبة. كما لفت إلى غياب البرامج الانتخابية الفعلية، خصوصاً في الانتخابات البلدية التي تُختزل أحياناً بصراع نفوذ بين عائلات أو تيارات، ما يفرغ المناظرة من مضمونها.
ورأى أن المناظرات تُعتبر تحدياً قد يفضح هشاشة تركيب اللوائح التي غالباً ما تجمع متناقضين سياسيين ومصلحيين، ما يجعل أي مناظرة تُحرج أحد المرشحين وتُنفر جمهور زميله. يضاف إلى ذلك، ضعف التغطية الاعلامية لهذا النوع من الفعاليات، ما يجعلها عبئاً إضافياً لا يرغب فيه كثير من المرشحين.
وعلى الرغم من كل ذلك، شدد بزي على أهمية المناظرات في “كشف الفارق بين الوجاهة والجدارة”، مؤكداً أنها لو أُقيمت بجدية لساهمت في إطلاع الناخبين على البرامج، واختبار كفاءة المرشحين، سواء في الانتخابات النيابية أو في القضايا المحلية كالنفايات، التخطيط المدني والجباية.
لكن هل يمكن للمناظرات أن تغيّر فعلياً في توجهات الناخبين؟ أجاب بزي أن “السؤال الأهم هو: على أي أساس يصوّت اللبناني؟ هل بناءً على البرامج أم على أساس الانتماء السياسي والعائلي؟”، مشيراً إلى أن البرامج نادرة، لكن في الانتخابات الماضية بدأت شريحة شبابية محدودة تميل إلى التصويت البرامجي، لا سيما تجاه المرشحين المستقلين.
أما وزير الداخلية السابق العميد مروان شربل، فذكّر عبر “لبنان الكبير” بأنه من أوائل المطالبين بتنظيم مناظرات، خصوصاً في الانتخابات البلدية، مشيراً إلى أنها تتيح للمرشحين عرض رؤاهم ومشاريعهم، وتساعد الناخبين في اتخاذ قرارهم. لكنه استدرك قائلاً: “تطبيق المناظرات في لبنان غير واقعي، لأن معظم المرشحين مرآة لأحزاب لا تتحاور أصلاً”، واصفاً الواقع الديموقراطي في البلاد بـ”المؤسف”.
واعتبر شربل أن غياب المناظرات يعكس مخاوف القوى السياسية من انكشاف ضعف بعض مرشحيها الذي قد يفتقر إلى المهارات والبرامج، كما لفت إلى أن الاستحقاق البلدي بات يُدار بعقلية انتخابية نيابية، إذ تعتبره الأحزاب بمثابة منصة مبكرة للمعركة البرلمانية، لا مناسبة لتنمية محلية مستقلة.
ومن الميدان، عبّر مواطنون من مختلف المناطق عن آرائهم. علي من البقاع قال إن انتماءه الحزبي هو معيار التصويت الوحيد، لأن البرامج غائبة والمنافسة تتم بين أشخاص من الخط السياسي نفسه. في حين أكد حسين من الجنوب أن الناس تصوّت “عالعمياني”، مع غياب أي خطط واضحة، متمنياً لو أن المناظرات تُجبر المرشحين على الالتزام بما يطرحونه. أما أمل من بيروت فشددت على ضرورة حل أزمة الصلاحيات في البلدية أولاً، لكنها رحّبت بفكرة المناظرات كأداة لمحاسبة جدية عبر صناديق الاقتراع.
في المحصلة، تبدو المناظرة الانتخابية في لبنان حلماً مؤجلاً في ظل البنية السياسية الحالية. لكن على الرغم من ذلك، ثمة إشارات إلى تحول تدريجي قد تقوده شرائح شبابية ومبادرات مستقلة، تبحث عن معيار جديد في انتخاب ممثليها: الكفاءة، لا الولاء.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”. موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير . وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.
ينشر هذا التقرير بالتزامن مع موقع لبنان الكبير