Loading...

التخلّف عن تعيينات الهيئات الناظمة: إصلاح مؤجّل في القطاعات الانتاجية اللبنانية

 

لم يعد أمام اللبنانيين من مهرب دون تعيين الهيئات الناظمة التي وردت ضمن ورقة العمل الفرنسية وتسلمها ممثلو ثمانية أحزاب لبنانية قبيل لقائهم بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قصر الصنوبر. وتضمنت الورقة إنجاز التعيينات القضائية (قضاة مجلس القضاء الأعلى) والمالية (أعضاء هيئة المراقبة على الأسواق المالية) والقطاعية (الهيئات الناظمة لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني)، وذلك وفقاً لمعايير شفافة تعتمد على الكفاءة.

الورقة التي بدت على أنها مسودة لبيان وزاري، تصر على تعيين الهيئات الناظمة خلال مهلة شهر، كشرط اصلاحي أساسي يحرك الجمود الدولي تجاه مساعدة لبنان. ومع أن الاصرار الفرنسي عليها واضحاً، إلا أنها ليست جديدة، وشابها الكثير من التجاذب السياسي بين القوى السياسية في السنوات الاخيرة، ما جعل الاحجام عن تعيين الهيئات الناظمة ملفاً سياسياً داخلياً بامتياز.

"الهيئة الناظمة"، Regulatory Body، هي كيان رقابي ومتخصص يتألف من اختصاصيين من القطاع العام والقطاع الخاص، تعينه الحكومة، ويعطيه القانون صلاحيات تسمح له بلعب دور كبير على مستويات عدة وباستقلالية تامة. ويتولى عضوية الهيئات الناظمة اختصاصيون، وتتولى الهيئة في المبدأ صلاحيات تقريرية، تسحب سلطة القرار من الوزير المختص ومستشاريه الى الهيئة مجتمعة. وفي الحالة اللبنانية، يمارس العُرف الميثاقي في قوانين انشاء الهيئات الناظمة الصادرة عن البرلمان، التي غالباً ما تكون مؤلفة من ستة اشخاص، كي تتمثل فيها الطوائف الست الكبرى وفق مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين.

إصلاح وشفافية

تعتمد دول اوروبية كثيرة الهيئات الناظمة منذ التسعينيات، مع صعود نجم الشراكة بين القطاع العام والخاص لاضفاء مزيد من الشفافية لجهة التنظيم والادارة والرقابة. فالدول المتطورة، رأت ان التطوير في القطاعات الانتاجية وإيجاد مساحة متاحة لريادة الاعمال، تحتاج الى التخصص وضخ دم من الاختصاصيين في جسم الادارة العامة، عبر إنشاء هيئات ناظمة في قطاعات تخصصية وعبر عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

ولأن لبنان كان يعاني من ضائقة اقتصادية، طلب المجتمع الدولي من لبنان الشروع بإنشاء الهيئات الناظمة في العام 2001 في مؤتمر "باريس 1"، وثم في مؤتمر "باريس 2" في 2002 الذي عده اللبنانيون "عام الهيئات الناظمة"، حين كان لبنان يسير مع الركب العالمي في البحث عن الهيئات الناظمة، بدفع من الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك.

ففي هذا العام، أوكلت الى البرلمان، عبر اللجان النيابية، مهمة تحضير القوانين التي تنص على إنشاء الهيئات الناظمة، تلبية لدفتر الشروط الفرنسي بموجب باريس 1، بغرض إعادة هيكلة المؤسسات للنفاذ من العثرات الاقتصادية التي كانت تعتري البلاد.

ويقول عضو كتلة "اللقاء الديموقراطي" النائب بلال عبد الله ان الهيئات الناظمة طالب بها "باريس 1" و"باريس 2" وقد اقر العديد منها في مجلس النواب وهناك الكثير التي تدخل ضمن صلاحياتها المباشرة خصوصاً ما يرتبط بالتلزيمات والصفقات والشراء ودفاتر الشروط، وبعض ما يتعلق بالقروض والهبات إن وجدت.

مهام تطويرية وتقريرية

تُنشأ الهيئات الناظمة في أي وزارة أو قطاع بموجب قوانين صادرة عن مجلس النواب ويكون دورها الأساسي تقديم الخطط للوزراء وإعداد الدراسات والأنظمة التي من شأنها تطبيقُ القوانين المتعلقة بكل قطاع وتُحيلها الى الوزير، كما تُبدي رأيها في المشاريع المقترحة وتساعد في إتخاذ القرارات والإجراءات وفق أحكام القانون الذي أقرَّ إنشاءها. كما تقوم بتشريع المنافسة بكل قطاع وتنظم التلزيمات والتراخيص وتشرف على حُسن تنفيذها او تقيدها بالشروط والقوانين. ومن ضمن مهام الهيئات الناظمة، تحديد التعريفات لقاء الحصول على الخدمة (كهرباء، اتصالات، طيران..) ووضع آلية تحصيلها، كما تدرس سبل تطوير كل قطاع، وتضع تقريرا سنويا عن مهامها وترفعه الى الوزير المعنيّ لرفعها الى مجلس الوزراء.

وبينما يفترض ان تتولى الهيئات الناظمة تقديم خطط للوزارات واعداد دراسات وأنظمة لتطبيق القوانين المتعلقة بكل قطاع، يرى النائب عبد الله في تصريحات لـ"مهارات نيوز" ان "غياب الدور الفعلي لهذه الهيئات نتج عنه تفلّت في معظم القطاعات وغياب أي رقابة للدولة وحتى في القطاعات التي سُمح فيها لشركات الخدمات الخاصة، اذ بقيت من دون رقابة  لجودة عملها، وهذا وجه من أوجه تفلت النظام السياسي الاداري من أي رقابة ومن أي محاولة إصلاحية جريئة".

وتتولى الهيئات الناظمة، في القانون، تقديم خطط للوزارات بغية تطوير القطاعات المعنية، وتنظيم القطاع المعني وتوسعته، وممارسة دور الرقابة على القطاع وتحديد كيفية ادارته، ومراقبة الاسعار والجودة، واعطاء تراخيص وافساح المجال امام الشركات للدخول في القطاع وابرام عقود، وتحديد معايير وشروط اي تعاقد او اتفاق، وخصخصة القطاع المعنيّ ووضع الشروط لهذه العملية. أما أعضاؤها، فهم هيئات مختلطة تضم ممثلين عن الوزارات وممثلين عن القطاع الخاص.

رغم ان البرلمان أقر القوانين الآيلة لتعيين هيئات ناظمة في قطاعات انتاجية تعاني من الترهل، وتكتنفها شبهات بفساد وسوء ادارة، الا ان الحكومات المتعاقبة لم تعين الا الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات التي يؤخذ عليها انها تضطلع بدور استشاري بما يتخطى الدور التقريري، كذلك الهيئة الناظمة لقطاع النفط، فيما لم تعين الهيئة الناظمة للطيران المدني، والهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. بمعنى آخر، تسنّ السلطة التشريعية القوانين، فيما ترفض السلطة التنفيذية تنفيذها، وهي لا تقتصر على الهيئات الناظمة، بل تمتد الى 54 قانوناً، بحسب ما قال رئيس مجلس النواب نبيه بري في 31 آب/أغسطس الماضي، ويعود بعضها الى العام 2004، لم تنفذ حتى الآن.

ويرجع سياسيون هذا التأجيل الى غياب الارادة السياسية وتضارب مصالح سياسية تكرس الزبائنية، وتبقي القوى السياسية النافذة في موقع رسم التوجهات الاقتصادية والانمائية والاجتماعية ولا تتم معالجة الامور ما يفقد التلزيمات الالتزام بمعايير الشفافية المعتمدة، خلافاً لكل القوانين والأصول المرعية الإجراء. وفيما يرى البعض إن الوزير هو رأس السلطة في وزارته، يرى مشرعون في المقابل ان المادة 66 من الدستور تنص على أن الوزير هو رأس السلطة ليطبق القانون. 

يفترض ان تتولى الهيئات الناظمة تقديم خطط للوزارات واعداد دراسات وأنظمة لتطبيق القوانين المتعلقة بكل قطاع

 

ثغرات التجربة

تزيل الهيئات الناظمة صلاحيات من ايدي الوزراء، وتمنحها لهيئات مستقلة، لأنها هيئة ناظمة وليست هيئة تابعة أو تتصرف بلا ضوابط أو محاسبة ورقابة، وهي معينة بمرسوم. ويقول المشرّع اللبناني والنائب السابق غسان مخيبر لـ"مهارات نيوز" ان "الهيئات الناظمة تزيل صلاحيات من الوزير وتمنحها لهيئات مستقلة"، لافتاً الى ان "المثل الصريح هو الهيئة الناظمة للاتصالات وهي هيئة مستقلة يفترض بها ان تراقب قطاع الاتصالات، وتحدد معايير عمله وتضبط شروط عمله، إنما غياب تمويلها ورفض الدولة لتمويلها إلا بالحدود الدنيا أو بـ"تجفيف" مصادر تمويلها يجعلها خاضعة للوزارة، بدل ان تكون مستقلة استقلالا كاملا".

 

ويوضح ان "القانون لاحظ ان تمويلها يحصل من عمليات شركات مخصصة، وبما انه لم يتم تخصيص اي شركة فهي بقيت من دون تمويل، وبعد حصول ذلك وبقائها خاضعة لتمويل وزارة الاتصالات فإن الاخيرة تنظر اليها كهيئة منافسة لها، وبالتالي لم تكن لتمولها بالمستوى المطلوب كي تقوم بعملها، وهذا مثال صارخ كيف أن لغياب التمويل او ضعف التمويل تأثير بالغ على فعالية الهيئات الناظمة والهيئات المستقلة".

ويعد ذلك واحد من الثغرات الاساسية في تجربة الهيئات الناظمة، ذلك ان الاستقلالية المالية، تمنحها قوة وتخرجها من عباءة الوصاية من قبل الوزير المختص عليها، وبالتالي التأثير على قراراتها. أما الثغرة الثانية، فتتمثل في الممارسة، لجهة اختزال الصلاحيات التقريرية، وتحويل النفوذ الى الصلاحيات الاستشارية.

هذا المثل، ينطبق على الهيئة الناظمة لقطاع البترول. يأسف النائب عبد الله لأن قطاع البترول لم يعد له هيئة ناظمة. يشرح: "أنشأوا هيئة ادارة القطاع وللأسف جردوها من كل صلاحياتها التنفيذية وأعطوها فقط موقع استشاري، وبذلك أصبحت هيئة غب الطلب ويجب أن تتحول الى هيئة ناظمة، فهم توافقوا على أن تكون من 6 اعضاء كي تستلم كل طائفة القطاع سنة ومداورة اي 6 رؤساء، واذا فتشنا العالم كله لا نجد هذه الصيغة".

وتفتح هذه الصيغة الباب أمام طريقة التعيينات. فلبنان لا يخرج عن هذه الصيغة "الميثاقية" القائمة على المناصفة في التعيينات طائفياً بين المسلمين والمسيحيين، وتراعي التوازنات المذهبية بين الطائفة الواحدة ضمن التعيينات. ففهي حال كان عدد أعضاء أي هيئة 4، سيتم تعيين ماروني وارثوذكسي وسني وشيعي. واذا كان العدد 6، سيُضاف الى هؤلاء كاثوليكي ودرزي.

يشكو النائب عبد الله من هذه الآلية، ويرى انه "إذا لم نصل الى دولة علمانية مدنية فكل المحاولات القائمة لقيام هذه الهيئات ستبوء  بالفشل، لأننا  بحاجة الى هيئة ناظمة متحررة من القيد الطائفي الزبائني وكذلك التدقيق في آلية التعيين كيف جرت ووفق أي أسس"، في اشارة الى عرقلة آلية التعيين في الكثير من هذه الهيئات، "ما يعني أننا  بحاجة ايضا الى ضوابط وللأسف هذا النظام لا ينتج  إلا زبائنية وفساد وتفلت إداري".  ويقول "اننا نطمح الى ان تكون هناك آلية تعيينات لهيئة متحررة من الاستنسابية والانتقائية وهذا موضوع شائك وخلافي وموضوع عليه صراع كبير، يصل الى حد تفسير الدستور، وقد رأينا كيف ان المجلس الدستوري عطل قانون مجلس النواب". 

وعلى الرغم من أن "الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء"، تتصدر مطالب القوى السياسية اليوم للحد من الفساد في القطاع، الا انها واحدة من عدة قطاعات تتنامى المطالب بتعيين هيئات ناظمة لها، تضطلع بمهام استشارية وتقريرية وتنفيذية، وتضع حداً لسلطة الوزير المختص على القطاعات، من بينها "الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات" و"الهيئة الناظمة لقطاع الطيران المدني" و"الهيئة الناظمة لقطاع النفط" وغيرها من القطاعات الانتاجية.

 

الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء

تصدرت هذه الهيئة قائمة النقاش السياسي منذ 3 سنوات، حين بدأ المجتمع الدولي يمارس ضغوطه على اللبنانيين لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة، والتي وردت لاحقاً ضمن قائمة مؤتمر "سيدر" لمساعدة لبنان. ويتضمن قانون تنظيم قطاع الكهرباء الذي يحمل الرقم 462 تاريخ 2 ايلول / سبتمبر 2002، في فقرته السابعة، انشاء هيئة تنظيم قطاع الكهرباء التي تتولى تنظيم ورقابة شؤون الكهرباء وفقا لأحكام هذا القانون وتتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلال الفني والإداري والمالي ويكون مركزها في مدينة بيروت. لا تخضع الهيئة لأحكام المرسوم رقم 4517 تاريخ 13/ 12/ 1972 (النظام العام للمؤسسات العامة). ولم يتم تعيين الهيئة حتى الآن.

الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات

أنشئت الهيئة المنظمة للاتصالات  بموجب القانون 431/2002، وأنيط بها تحرير وتنظيم وتطوير قطاع الاتصالات في لبنان. بدأت الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات في لبنان أعمالها إثر تعيين مجلس إدارتها في العام 2007 في حين لم تنشأ شركة اتصالات لبنان التي كان ينص عليها القانون 431. مما استدعى هذه الهيئة ان تتوقف عن التعاطي في المواضيع التشغيلية في العام 2009 بعد ان صدر قرار عن مجلس شورى الدولة اعتبر فيه الشق المتعلق بانشائها والصلاحيات الممنوحة لها غير نافذ لحين استكمال تنفيذ القانون لناحية الجزء المتعلق بخصخصة قطاع الاتصالات وانشاء شركة اتصالات لبنان. كما تعطل عملها ايضا مع انتهاء مدة ولاية اعضائها في العام 2012 وعدم قيام الحكومة بتعيين اعضاء جدد لها. واخيرا عند صدور قرار وزير الاتصالات بطرس حرب في آب 2015 كف يد رئيس الهيئة عماد حب الله.

الهيئة الناظمة للطيران المدني

صدر مرسوم إنشاء "الهيئة الناظمة للطيران المدني" في العام 2002 تحت الرقم رقم 7251 ، واستحال قانوناً صادراً عن البرلمان تحت الرقم 481 تاريخ 12/12/2002، ولكنها لم تُشكل حتى الآن بسبب الخلاف على طائفة رئيسها والاعضاء. وترتبط الهيئة بوزارة الأشغال العامة والنقل التي تمارس عليها الوصاية الإدارية.

هيئة إدارة قطاع البترول

هي مؤسسة عامة ذات طابع خاص مسؤولة عن إدارة القطاع البترولي في لبنان. تأسست هيئة إدارة قطاع البترول في 4 -12- ٢٠١٢ بموجب المرسوم ٧٩٦٨/٢٠١٢ وذلك انفاذاً للمادة العاشرة من القانون ١٣٢/٢٠١٠، وجرى تعيين أعضاءها.

شفافية متوخاة

يُنظر الى الهيئات الناظمة على انها خطوة اساسية لتعزيز الشفافية في الادارات الحكومية وتحديداً في القطاعات الانتاجية، وتبرز أهمية استقلال الهيئة الناظمة، والتحديات المتعلقة بإيجاد موظفين مدربين تدريبا جيدا. فالهيئات الناظمة، تراعي الحوكمة الرشيدة، لكنها في الوقت نفسه تشترط حسن اختيار اعضاء الهيئات الناظمة بشفافية مطلقة. فإذا أحسن  إختيار الهيئات الناظمة، سينتج عن ذلك جودة اداء وشفافية اكثر في الصفقات، ويساهم في انضباط الادارة وتطورها وهذا ما يؤدي الى الحوكمة الرشيدة. وينظر كثيرون الى ان النتائج المتوخاة من تعميم هذا النموذج، هو صرف اقل وتأمين واردات اكبر للدولة،  وهو جزء من اصلاحات جذرية وجدية ومطلوبة في الادارة اللبنانية. 

TAG : ,الهيئات الناظمة ,القطاعات اللبنانية ,Regulatory Body