في أوقات الأزمات والحروب، يصبح الإعلام أداة رئيسية في نقل الحقيقة، تشكيل وعي الجمهور، ومواجهة سيل الأخبار المضللة، لكن في أوقات الحروب، لا سيما في لبنان، تصبح الحاجة ماسة إلى المعلومة السريعة والدقيقة الآتية من موقع الحرب. وهنا يبرز دور ما يعرف بالإعلام المناطقي الذي ينقل نبض المجتمعات المحلية ويرصد تأثير الحرب على الأرض من قلب الحدث.
“الإعلام المناطقي يُعيد الإعتبار لمفهوم القرب الصحفي، ليس فقط من حيث الجغرافيا، بل من حيث الحضور في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، وهو ما يغيب عن كثير من التغطيات المركزية أو حتى بعض وسائل الإعلام المحلي التي تعيد إنتاج خطاب السلطة”، يقول الخبير الإعلامي والأستاذ في الجامعة اللبنانية – كلية الاعلام الدكتور علي رمال.
خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي وقعت على لبنان في العام 2024، برزت مواقع الإعلام المناطقي كمصدر رئيسي وموثوق للمعلومات الأولية، في ظلّ تعذّر وصول الإعلام المركزي إلى بعض المناطق المتأثرة بشكل مباشر القريبة من خطوط التماس. وشكلت المنصات الإعلامية المناطقية في مناطق الجنوب اللبناني، والبقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت، نماذج حية لدور الإعلام المناطقي في تغطية الأزمات، ورغم الظروف الأمنية الخطرة، والموارد المحدودة، والضغوط المتزايدة، تمكّن الإعلام المناطقي في هذه المناطق من نقل الصورة السريعة والدقيقة في الوقت نفسه، ما جعله مصدرًا رئيسيًا، تعتمد عليه وسائل الإعلام المركزي.
وإلى جانب الدور الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام المناطقي في المناطق سابقة الذكر، برزت صفحات الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، المتواجدين في مناطق النزاع، كانت مصدر معلومات مؤثرة وموثوقة أيضًا خلال الحرب، حيث قدمت هذه الصفحات تغطية فورية ودقيقة في ظلّ غياب بعض وسائل الإعلام المركزي عن المشهد الميداني، ما جعلها تلعب دورًا تكميليًا للإعلام المناطقي، بل وأحيانًا تتفوق عليه من حيث السرعة والقدرة على الوصول.
وفي السياق، يشير الدكتور علي رمال في حديث إلى منصة “بشوفك”، إلى أن هذه المبادرات ظهرت بوضوح خلال الحرب الأخيرة، حيث نشأت صفحات رقمية ومجموعات إعلامية مصغرة تقدم تحديثات لحظية عن أوضاع الأحياء، وتوثق قصصًا إنسانية لا تغطيها الكاميرات الكبرى.
الإعلام المناطقي: رواية محلية في قلب الصراع
الجنوب اللبناني، كان خطّ المواجهة الجغرافي الأول، كان ولا يزال بؤرة الأحداث والتطورات الأمنية، كما الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث الثقل السكاني والسياسي، المنطقتان الأكثر تضررًا من الحرب على مختلف المستويات، وحيث تركزت التغطيات الإعلامية لمختلف وسائل الإعلام المركزي. إلا أن منصات الإعلام المناطقي كانت الأقرب جغرافياً إلى الواقع المعاش، وكانت الأسرع في نقل الصورة، فنقلت المستجدات لحظة بلحظة، من خلال شبكة مراسلين مناطقيين على الأرض، السكان المحليين، البلديات، المستشفيات والإسعاف، وكل مصادر المعلومات في المناطق، إذ كانت تعتمد هذه التغطية على تقارير حيّة وصور ومقاطع فيديو تمّ تصويرها عبر الهواتف الذكية، ما أعطى للأخبار مصداقية ميدانية، في وقت كان الإعلام المركزي يعاني من صعوبة الوصول. ورغم المخاطر الأمنية، استمر الصحافيون المناطقيون في مناطق النزاع من نقل أصوات الأهالي، موثقين قصص النزوح، والدمار، والصمود، ليصبحوا العين التي تنقل معاناة الناس للعالم.
في مناطق النزاع، لعبت العديد من المنصات الإعلامية المناطقية مثل “يا صور” و”النبطية 22 “، وموقع “بنت جبيل” وموقع “صدى الضاحية الإلكتروني” دورًا حاسمًا في نقل المستجدات لحظة بلحظة، نظرًا لقربها الجغرافي من مناطق التماس، وبإستنادها إلى شبكة مراسليها ومصادر معلوماتها، تمكنت هذه الوسائل من تقديم تغطية دقيقة وسريعة، تسبق أحيانًا وسائل الإعلام المركزية.
نموذج: موقع يا صور
نموذج: “موقع النبطية”
نموذج: “موقع بنت جبيل”
نموذج: “جنوبية”
نموذج: “البقاع الآن”
وبالإضافة إلى نقل الأخبار الآنية، ساهمت هذه المنصات في تقديم تحليلات معمّقة للسياق السياسي والإجتماعي المرتبط بالحرب، وأثبتت قدرتها على تقديم محتوى موثق وتحليلي، ساهم في الحدّ من انتشار الأخبار المضللة. ومن خلال النقاشات التفاعلية والمقالات التحليلية، تمكن الإعلام المناطقي في الضاحية من تعزيز وعي الجمهور، وربط الأحداث المحلية بالتطورات الوطنية والإقليمية.
ما الذي ميّز الإعلام المناطقي في تغطية أحداث حرب 2024؟
بحكم تواجد أصحاب هذه الصفحات في مناطق الحدث أو ارتباطهم بمصادر موثوقة، استطاعوا نقل الأخبار بسرعة تفوق في بعض الأحيان وسائل الإعلام المركزية. وهذا ما يؤكده مراسل قناة LBCI إدمون ساسين، حول الدور المحوري الذي لعبه الإعلام المناطقي خلال الحرب الأخيرة التي شهدها لبنان، والتي امتدت لأكثر من عام ونصف وما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم، حيث اعتمد الإعلام المركزي على المنصات المناطقية كمصدر للمعلومة خلال التغطية، ويقول “المنصات المناطقية ساهمت بشكل كبير في تغطية الأحداث، في ظلّ جبهة واسعة امتدّت من الناقورة إلى شبعا، وطالت بتأثيرها معظم المناطق اللبنانية. وإن العاملين ضمن المنصات المناطقية كانوا في قلب قراهم وبلداتهم، واستطاعوا بفضل شبكاتهم الميدانية أن يوفّروا الأخبار الأولية بشكل سريع وفعّال”.
قدّمت منصات الإعلام المناطقي تغطية من زوايا متعددة، تشمل الوضع الأمني، الإنساني، والتحليل السياسي، ما أعطى صورة أكثر شمولًا للأحداث. وبحسب الصحافي إدمون ساسين فإن “المجموعات التي أنشأتها بعض المواقع المحليّة على تطبيق “واتساب” و”Telegram”ساهمت في توسيع نطاق التغطية، كما جمعت بين مراسلين محلّيين وآخرين يعملون في محطات مركزية”. ويرى أن هذه المجموعات، كانت مساحة لتبادل كمّ كبير من المواد الخام، من صور وفيديوهات ومعلومات، بفضل الانتشار الواسع للمراسلين في مختلف النقاط، لا سيّما في المراحل الأولى من الحرب، وفي البلدات التي يصعب على المراسلين المركزيين الوصول إليها.
وعبر التعليقات والمراسلات، أتاحت هذه المنصات للجمهور فرصة طرح الأسئلة وتصحيح المعلومات المغلوطة، ما ساعد على محاربة الشائعات. وفي السياق يشرح الدكتور علي رمال أن من أهمّ مزايا الإعلام المناطقي هو التفاعل الجماهيري المباشر، وذلك لقدرته على خلق علاقة مباشرة وتفاعلية مع الجمهور، تختلف جذريًا عن علاقة الإعلام المركزي بالمتلقي، فالمستخدم المحلي لا يرى نفسه متفرجًا فقط، بل مساهمًا في صنع المحتوى، سواء عبر التعليق، أو التبليغ، أو إرسال المواد، أو حتى التصوير، ما يجعل من الإعلام المناطقي نموذجًا فعّالًا لـ”الصحافة التشاركية”، حيث الخبر يولد من الميدان، ويُبث إلى الميدان، دون المرور بهيئات تحريرية ثقيلة أو أجندات بعيدة عن الواقع المحلي، بحسب تعبير رمال.
أما عن تجربة “موقع صدى الضاحية الإلكتروني” المناطقي خلال الحرب، فيقول مديره الأستاذ عماد جابر، إن الإعلام المناطقي هو نقل المعاناة الإنسانية في بعدها الشخصي، “لم نكن نريد أن تتحول آلام الناس ومشاهد القصف والدمار إلى عداد يومي، بل كنا نسعى لإبراز القصص خلف الصور، على سبيل المثال قصة أم فقدت أولادها، أو عجوز نزح للمرة الخامسة، أو طفل يبحث عن دواء وسط الحطام. هذا هو جوهر عملنا”.
ويعتبر في حديث إلى منصة “بشوفك”، أن من العناصر اللافتة في تجربتهم، هو التفاعل المباشر مع المجتمع المحلي، حيث لم يكتف الموقع بتقديم التغطية، بل جعل من منصته ساحة لتبادل الرأي وتجميع الشهادات، ولقد “فتحنا المجال للناس ليكتبوا بأنفسهم، يرسلوا صورهم، قصصهم، وهذا لم يكن فقط مادة إعلامية بل شكلًا من أشكال المقاومة النفسية، من إثبات الوجود في وجه الدمار”.
ماذا عن تحديات الإعلام المناطقي خلال الحرب!
رغم دوره الحيوي، واجه الإعلام المناطقي في لبنان عدة تحديات شكلت عائقًا أمام تحقيق تغطية شاملة وفعالة، كان أبرزها المخاطر الأمنية، إذ أن استهداف المناطق الحدودية جعل التنقل الميداني مهمة محفوفة بالمخاطر، ما قيّد قدرة الصحافيين المناطقيين على جمع المعلومات من مواقع الأحداث مباشرة. وهذا ما يؤكّده مدير موقع “صدى الضاحية الالكتروني”، عماد جابر، بأن العمليات العسكرية والحروب مثّلت تحدياً كبيراً لناحية سلامة الفريق أثناء تغطية الأحداث على الأرض، حيث كان من الممكن أن يتعرض للقصف أو لتهديدات أمنية مباشرة، كما وأن مكتب الموقع في منطقة الضاحية قد تدمر.
في المقابل، يلفت الدكتور علي رمال إلى أن الكثير من العاملين في الإعلام المناطقي لا يتمتعون بأي حماية قانونية، لأن أغلب المنصات غير مرخّصة أو غير معترف بها من الجهات الرسمية، ما يضعهم في مهبّ المخاطر، خاصة في أوقات التوتر الأمني أو القمع السياسي، حيث يمكن اعتبارهم “غير صحافيين” من الناحية القانونية، وبالتالي لا يسري عليهم ما يسري على الإعلاميين من حماية نسبية. ويعتبر أن هذه الهشاشة القانونية تُضعف من قدرة الإعلام المناطقي على الصمود، وتجعل من كل تجربة مناطقية مغامرة شخصية أكثر منها مشروعًا مؤسساتيًا.
ويعاني الإعلام المناطقي من إشكالية مزمنة في التمويل. فبينما تتلقى وسائل الإعلام المركزي دعمًا مباشرًا أو غير مباشر من جهات سياسية أو أصحاب الأعمال والنفوذ، أو شركات إعلانية كبرى، يعتمد الإعلام المناطقي على تمويل متواضع، يأتي بغالبيته من الإعلانات، بالإضافة إلى تبرعات بعض الأفراد أو تنفيذ مشاريع إعلامية ممولة مع مؤسسات المجتمع المدني، أما عن مواردها البشرية وفريق العمل، فتعتمد هذه المنصات بشكل كبير على المتطوعين، تديره إدارة تحرير مؤلفة من فريق عمل محترف. أما على صعيد التجهيزات والمعدات، فتعاني المنصات من تحديات مالية في توفير المعدات اللازمة للتغطية المستمرة والأمنية، بما في ذلك التكنولوجيا التي تسمح لها بالبقاء على اتصال دائم وتوثيق الأحداث. بحسب ما ذكره الأستاذ عماد جابر.
ويرى الدكتور علي رمال أن “التمويل ليس فقط معضلة استمرارية، بل هو أيضًا معضلة أخلاقية. فحين يعتمد الصحافي المناطقي على المجتمع، يصبح أمامه مسؤولية مزدوجة، الحفاظ على الاستقلالية من جهة، والتعامل مع الضغوطات من جهة أخرى، كما وأن غياب هيكلية اقتصادية واضحة يجعل هذا النوع من الإعلام هشًا أمام الضغوط السياسية أو التغيرات الطارئة”.
في بعض المناطق الريفية، شكّل ضعف خدمات الإتصالات والإنترنت عقبة أمام النقل الحي والتغطية السريعة. كما يشير جابر، بالإضافة إلى الصعوبات المالية في تأمين المعدات، وضمان استمرار البث والتواصل، ويقول “لم نكن نملك تجهيزات كبرى، لكننا استثمرنا في شبكة علاقاتنا ومراسلين ميدانيين يعرفون الأرض ويحترفون قول الحقيقة”.
ومع تعذّر الوصول الميداني، ازدادت فرص انتشار الشائعات والمعلومات غير الدقيقة، ما استدعى جهودًا مضاعفة للتحقق من صحة الأخبار. وهذا يؤكده مدير موقع “صدى الضاحية الالكتروني” الأستاذ عماد جابر “المسؤولية مضاعفة للإعلام المناطقي في ظلّ انتشار الشائعات والمعلومات غير الدقيقة التي غالبًا ما ترافق الحروب”. ويضيف “نعتمد دائمًا على منهجية تحقق صارمة قبل نشر أي خبر، ونستخدم مصادر موثوقة من الميدان، ونتبادل المعلومات مع صحافيين نثق بمصداقيتهم، و نتأكد من الخبر أكثر من مرة، لأننا نعلم أننا إن أخطأنا، فالثمن سيكون الثقة التي بنيناها بشق الأنفس”.
هذه الرؤية تجعل من الإعلام المناطقي أداة لمكافحة التضليل، لا مجرد ناقل سلبي للمعلومات، خصوصًا حين تكون المعلومة هي فارق بين حياة وموت، أو بين واقع مشوّه وآخر موثّق بصدق.
وبالرغم من القرب الجغرافي والقدرة على رصد التفاصيل، فإن الإعلام المناطقي لا يخلو من تحديات تتعلق بالمهنية والمصداقية. فالعمل في ظروف تطوعية، مع غياب التدريب الصحافي الكافي، يؤدي أحيانًا إلى تضخيم الأخبار أو السقوط في فخ التحيّز.
ومن التحديات التي واجهها الإعلام المناطقي خلال الحرب أيضاً، وفق الدكتور علي، عدم الجهوزية على مستوى الموارد البشرية، وقّلة العاملين في منصات الإعلام المناطقي، وتدريبهم، على تغطية الأحداث الخطرة مثل الحرب. فإن غياب التكوين الصحفي المحترف يطرح تحديات حقيقية في دقة المعلومات، في المعالجة المهنية، وفي احترام أخلاقيات المهنة. كثير من هؤلاء المتطوعين يندفعون بدافع الحماسة أو الشعور بالواجب، ما يخلق نوعًا من “الصحافة المواطنية” غير المؤطرة، التي تحتاج دعمًا وتدريبًا لتتحول إلى قوة لا إلى عبء.
وعن حقوق النشر والملكية الفكرية، يقول الدكتور علي إنه “بسبب طبيعته المفتوحة والمجتمعية، كثيرًا ما تُستخدم المواد المنتجة في الإعلام المناطقي دون إذن، سواء من قبل مؤسسات إعلامية كبرى أو صفحات تواصل ذات جمهور واسع. غالبًا ما تُسرق جهود الصحافيين المناطقيين، لا لأن نوايا الآخرين سيئة بالضرورة، بل لأن لا أحد يعترف بملكية ما لا يحمل توقيعًا مؤسساتيًا واضحًا”. ويشير إلى أن هذه النقطة تفتح نقاشًا أوسع حول ضرورة وضع إطار قانوني لحماية المنتج الإعلامي المحلي، مع تشجيع نموذج “رخص المشاع الإبداعي” الذي يحفظ الحقوق دون أن يعيق التداول المجتمعي للمعلومة.
بدوره، يشير عماد جابر إلى أن الإعلام المركزي لم يكن يذكر مصدر أخباره عندما تكون من المنصات المناطقية، “كانت هناك حالات حيث قامت وسائل الإعلام المحلية بنقل أخبارنا دون الإشارة إلى “موقع صدى الضاحية الالكتروني” كمصدر”. كان ذلك غير مقصود في بعض الأحيان، و”لكننا حاولنا تصحيح الوضع عند اكتشافه من خلال التوثيق ومتابعة الحقوق”.
من جهته يلفت مدير موقع “النبيطة 22” الأستاذ هادي معتوق، في حديث إلى موقع “بشوفك”، إلى أن غالبية الفيديوهات التي تم تداولها خلال فترة التصعيد، من مؤسسات مثل “الجزيرة” و”العربية”، كانت من إنتاج موقع “النبطية 22″، رغم أن الهوية البصرية لهذه المواد كانت تُطمس أحيانًا. “كنا نصور بالهواتف المحمولة عموديًا، وهذا النمط أصبح علامة واضحة على أن المادة من إنتاج إعلام مناطقي، ويمكننا ملاحظة ذلك في غالبية المقاطع المعروضة على كبرى الشاشات”.
ويشير معتوق إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن وسائل الإعلام العبرية كانت تتداول أحيانًا المواد المصورة إنتاج الموقع وليس فقط الإعلام المركزي.
ومن الإشكاليات الجوهرية التي أشار إليها الدكتور علي رمال، مسألة استدامة الإعلام المناطقي. فغالبية هذه المبادرات تنشأ كرد فعل ظرفي في حالات الحرب، الكوارث، أو الحصار لكنها تذبل أو تتفكك بمجرد انتهاء الأزمة. والسبب في ذلك يعود إلى غياب التمويل المنتظم، وعدم وجود إطار تنظيمي واضح، وكذلك إلى نضوب طاقة المتطوعين بعد فترة من العمل المكثف. ويُشبّه رمال الإعلام المناطقي بـ”خلايا مقاومة مدنية”، تظهر في الطوارئ ثم تنسحب، وهو ما يفتح الباب أمام التفكير في كيفية تحويل هذا النموذج من حالة دفاعية إلى بنية دائمة.
استجابة الإعلام المناطقي: مرونة وإبتكار
ولكن على الرغم من هذه التحديات، نجح الإعلام المناطقي في تقديم استجابات مبتكرة ساعدت على استمرار التغطية الإعلامية الفعالة؛ لإعتماد الإعلام المناطقي على جهود المتطوعين، ما يمنحه مرونة سريعة في التشكّل والتفاعل مع الطوارئ، خصوصًا في الأزمات، ويزيد من شعور الناس بإمتلاك المنصة.
كما ولجأت العديد من الوسائل الإعلامية المناطقية إلى منصات التواصل الاجتماعي لبث الأخبار العاجلة، والتحقق من المعلومات عبر التفاعل مع الجمهور، في الوقت الذي كانت فيه القنوات الإعلامية التقليدية قد تتعرض لضغوطات أو صعوبة في الوصول إلى بعض المناطق المتأثرة.
بعيدًا عن التغطيات الميدانية، تمّ إطلاق برامج حوارية افتراضية في منطقة الضاحية الجنوبية، أتاحت مناقشة الأوضاع بشكل معمّق، وساعدت في تصحيح المعلومات المضللة.
وفي مناطق بعيدة عن النزاع جغرافيًا، كمنطقة الشوف، والتي كانت تعتبر إلى حدّ ما منطقة آمنة، لجأ إليها العديد من أهل الجنوب وبيروت، قام موقع “بشوفك” للإعلام المناطقي في الشوف بإطلاق برنامج أسبوعي من 8 حلقات بعنوان “الصورة من الشوف – الحرب على لبنان”، حيث تناول ملفات حديث الساعة في الحرب، مع خبراء ومعنيين ومن السكان المحليين من أهالي الشوف والأهالي الذين أجبروا على النزوح إلى الشوف، إذ لعب البرنامج دورًا في التوعية وتقديم الحقائق والأجوبة على أسئلة الناس في الشوف وخارجه، وساهم في الحدّ من انتشار الأخبار المضللة، وأظهر التعايش المشترك في المناطق، في استضافة أهالي الشوف لإخوتهم اللبنانيين من مختلف المناطق.
وكما اعتمدت وسائل الإعلام المركزية بشكل كبير على تقارير الإعلام المناطقي كمصدر أولي للمعلومات، اعتمد الجمهور أيضًا على منصات الإعلام المناطقي، لمعرفة آخر الأخبار لا سيما على غروبات الواتس اب، ما عزز مكانة هذه الوسائل كمرجع موثوق لدى الجمهور، في وقت يتغاضى الإعلام المركزي في كثير من الأحيان عن ذكر مصدر أخباره إذا كانت من منصات مناطقية.
يقول مدير موقع “صدى الضاحية الإلكتروني” الأستاذ عماد جابر، “لاحظنا ازدياد الاعتماد على وسائل الإعلام المناطقي من قبل الجمهور ووسائل الإعلام المركزي، خاصة في ظلّ الظروف الأمنية الصعبة. هذا انعكس على عملنا بشكل إيجابي في بعض الأحيان حيث وفّر لنا ذلك المزيد من الفهم المحلي للأحداث، ولكنه في بعض الأحيان أدى إلى تضارب المعلومات وصعوبة التحقق منها”.
وهو ما أشار إليه الدكتور علي رمال أيضاً عن العلاقة الوثيقة التي استطاعت المنصات المناطقية بنائها مع جمهورها، وباتوا يعتمدون عليها أكثر من الإعلام المركزي عندما يتعلق الأمر بأخبار منطقتهم.
دروس مستفادة: نحو إعلام مناطقي أكثر فاعلية
دائمًا ما يبرهن الإعلام المناطقي الرقمي قدرته على سدّ فجوة كبيرة في نقل المعلومات، والحاجة الملحة إلى وجوده، حيث قدمت من جديد تجربة الإعلام المناطقي اللبناني خلال الحرب الأخيرة دروسًا حيوية يجب البناء عليها أهمها:
1- تعزيز أهمية الإعلام الرقمي: حيث أصبح الإعلام الرقمي بديلًا فعالًا عن التغطية الميدانية التقليدية، ما يستدعي الاستثمار في تطويره وتعزيزه. وفق ما يوضحه الأستاذ عماد جابر، بأن الإعلام الرقمي لم يعد ترفًا أو خيارًا تكميليًا، بل “هو ضرورة ملحة في ظلّ النزاعات والحروب، لأنه الأقرب إلى الناس، والأكثر قدرة على فهم واقعهم، ونقل صوتهم بصدق. هذا الإعلام يجب أن يُدعم، لا أن يُهمّش”.
2- الحاجة للتعاون وبناء الشراكات بين الإعلام المركزي والمناطقي: إذ أن التعاون بين الإعلام المناطقي والمركزي أصبح ضرورة لضمان تغطية شاملة وموثوقة. هذا ما يؤكد عليه الدكتور علي رمال، ويدعو إلى توطيد العلاقات بين الإعلام المركزي والمناطقي، لأن كلّ نوع منهما بحاجة للعمل مع الآخر وليس ضدّ الآخر. وبالتالي فهذه الشراكة، تعطي الإعلام المناطقي مساحة أوسع لعرض تقاريره على المستوى الوطني.
ويشدّد الصحافي إدمون ساسين على أن الإعلام المناطقي يشكّل تجربة غنية يجب تعميقها، والعمل على تنظيم المجموعات والمراسلات، بهدف تحقيق تفاعل إيجابي، والوصول إلى خبر سريع ودقيق يخدم الإعلام، ويبقيه على تماس مباشر مع الحدث في لحظته.
بدوره، يرى مدير موقع “النبطية 22” المناطقي، هادي معتوق، أن تجاوز الإقصاء يتطلب تعاونًا فعّالًا بين الإعلام المركزي والمناطقي، ولا بدّ من وجود تبادل منهجي في المعلومات. “فالإعلام المركزي بات بحاجة إلينا، ونحن بحاجة إليه في التوسيع والترويج والدعم التقني”. وهذه الدعوة تكشف عن خلل هيكلي في الإعلام اللبناني، حيث تُهمَّش الجهات المناطقية لصالح المركرزية، رغم أن المنتج الإعلامي الحقيقي بات يأتي من الأطراف.
3- التمويل المستدام: لضمان استمرارية الصحافة المناطقية خلال الأزمات، لا بد من إيجاد حلول تمويل مبتكرة ودائمة، والتعاون مع منظمات دولية داعمة لحرية الصحافة. فبحسب الدكتور علي، فالإعلام المناطقي لم يعد مجرد ظاهرة هامشية، بل هو حاجة مجتمعية تتجدد في كل أزمة. لكنه لا يستطيع أن يستمر ما لم يُنظر إليه كجزء من البنية الإعلامية الوطنية، ويُمنح أدوات الحماية والاعتراف المؤسساتي. “نحن بحاجة إلى عقد جديد بين الإعلام والمجتمع، يُعيد تعريف العلاقة على أساس المشاركة والمساءلة معًا، لا التبعية أو التهميش”.
ويشدّد على أحقية منصات الإعلام المناطقي بالاستفادة ماديًا من إنتاجها الإعلامي الحصري، كما وأن يتم وضع إطار لتعاملها مع الإعلام المركزي، يمكنها من ضمان حقوقها المعنوية والمادية من الملكية الفكرية.
4- الإتحاد وتوحيد عمل الإعلام المناطقي: وفق الدكتور علي رمال، لا بدّ من تشكيل اتحاد يجمع الإعلام المناطقي، وينظم عمل المنصات بين بعضها البعض وبينها وبين الإعلام المركزي، ولتبادل الأخبار والتحقيقات، والتحقق من المعلومات بشكل جماعي، بما يمكّنها من المطالبة بحقوقها وحقوق العاملين فيها، والضغط معًا باتجاه التحسين والتطوير.
5- تأثير الإعلام المناطقي على وعي الجمهور بذاته: فحين يرى المواطن صورته وقضاياه على الشاشة، بصوته وبلهجته وهمومه، يشعر بأنه ليس هامشًا، بل مركزًا في روايته الخاصة. هذا يعزز من شعور الانتماء، ويكسر المركزية الثقافية والإعلامية التي لطالما جعلت من بعض المناطق “مساحات صامتة” في خريطة الوطن.
6- تطوير مهارات التحقق: من خلال تدريب الصحافيين المناطقيين على أدوات التحقق من المعلومات، لمحاربة انتشار الأخبار الكاذبة.
7- تعزيز الأمن الرقمي: لحماية الصحافيين المناطقيين من الاختراقات والمراقبة.
هل الإعلام المناطقي مستعد للمستقبل؟
على الرغم من التحديات الجسيمة التي واجهها الإعلام المناطقي اللبناني خلال الحرب، إلا أنه أثبت قدرته على التكيف والابتكار في نقل الحقيقة. من الجنوب إلى البقاع والضاحية الجنوبية، شكلت هذه الوسائل صوتًا محليًا موثوقًا، ونجحت في سدّ الفجوة المعلوماتية الناتجة عن تعذّر التغطية الميدانية للإعلام المركزي.
المستقبل يتطلب استثمارًا جادًا في الإعلام المناطقي، سواء عبر تعزيز موارده المالية والتقنية، أو من خلال بناء شبكات تعاون فعالة مع وسائل الإعلام المركزية. فالأزمات لن تتوقف، لكن الإعلام المناطقي إذا ما حصل على الدعم اللازم، يمكن أن يصبح قوة حقيقية في مواجهة التضليل الإعلامي، وتقديم رواية دقيقة وواقعية للأحداث، بحسب ما أكده الخبير الاعلامي والاستاذ في الجامعة اللبنانية – كلية الإعلام الدكتور علي رمال.
كما وأنه من خلال التجربتين الموثقتين لكلّ من المنصتين المناطقتين موقع “صدى الضاحية الالكتروني” و”النبطية 22″، يتضح لنا أن الإعلام المناطقي لم يكن مجرد أداة توثيق، بل فاعل سياسي وثقافي ومجتمعي في زمن الحرب. وقد مثّل شاهدًا وناقلًا ومصححًا ومقاومًا، ونجح في قلب المعادلة الإعلامية التي لطالما كان مصدرها الأساسي وسائل الاعلام المركزي، الذي اعترف بجهود الإعلام المناطقي وأهمية الدور الذي قام به وقت الحرب، بشهادة الصحافي الأستاذ إدمون ساسين.
ويبقى السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لدعم هذا الإعلام الحيوي، أم سنتركه يواجه العواصف وحده؟
تمّ إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”. موّل الإتحاد الأوروبي هذا التقرير، وتقع المسؤولية عن محتواه حصريًا على عاتق مؤسسة “مهارات” وهو لا يعكس بالضرورة آراء الإتحاد الأوروبي. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع بشوفك.