Loading...

الاختناق المروري خلال فصل الصيف: أزمة تتفاقم في ظل غياب مشاريع البنية التحتية

 

في لبنان، لم تعد زحمة السير مجرّد تفصيل يومي في حياة الناس، بل تحوّلت إلى مرادف لشلل مزمن يصيب البلاد صباحًا ومساءً. وعلى الرغم من الاعتياد الظاهري، تتفاقم الأزمة عامًا بعد عام، لا سيما في فصل الصيف مع عودة المغتربين وتوافد السيّاح وارتفاع النشاطين الاقتصادي والاجتماعي. أصبحت الطرقات مصائد زمنية يُحتجز فيها اللبنانيون لساعات يوميًا، في ظل بنية تحتية متهالكة وغياب شبه تام لأي نظام نقل عام فعّال، وتراكم سنوات من الإهمال في التخطيط الحضري. وفي حين تتجه مدن العالم نحو حلول ذكية ومستدامة في التنقّل، لا تزال المدن اللبنانية محكومة بسياسات عشوائية وتفتقر إلى رؤية شاملة.

 

تتجاوز المشكلة الازدحام لتلامس أزمة تنموية تستنزف طاقات الأفراد، وتُعيق حركة الاقتصاد، وتُفاقم التلوّث والانبعاثات. ومع كل صيف، يُطرح السؤال ذاته: من يتحمّل المسؤولية؟ وأين ذهبت الخطط الوطنية التي وُعد بها اللبنانيون؟

 

في هذا السياق، تلقّت الحكومة  عام 2021 قرضًا من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار لتحسين النقل العام وتحويله إلى أداة للحماية الاجتماعية، إلا أنّ هذه الأموال لم تُترجم بعد إلى مشاريع ملموسة تخفف وطأة الأزمة. من جانبه، يقول رئيس الأكاديمية اللبنانية الدولية للسلام المرورية كامل إبراهيم، في حديث خاص مع "مهارات نيوز"، إنّ لبنان لا يشهد اليوم أي مشاريع جدّية مرتبطة بالنقل أو البنى التحتية، وأن القرض المخصص للنقل العام لم يعد قائمًا، وما يُطرح اليوم يظل مبادرات غير مستدامة. وأضاف أنّ مئات الملايين صُرفت على مشاريع طرقات اختيرت وفق حسابات سياسية أكثر من حاجات فعلية، فقد خُصّص أكثر من 200 مليون دولار لإعادة تأهيل نحو 600 كيلومتر من الطرق، لكن الأولويات لم تُحدّد علميًا، فيما جرى تحويل أموال إضافية لأزمات لا علاقة لها بالنقل، ما يجعل القطاع خارج أي إطار جدّي للإصلاح.

 

غياب التخطيط 

تتواصل أزمة السير في لبنان كواحدة من أكثر الأزمات المزمنة التي تنعكس على حياة المواطنين واقتصادهم بشكل خانق، في ظل غياب رؤية وطنية متكاملة للنقل العام والبنى التحتية. 

 

يرى مؤسس ورئيس جمعية "يازا" زياد عقل في حديث خاص مع "مهارات نيوز"، أنّ الاعتماد المفرط على السيارات الخاصة في ظل غياب شبه كامل لوسائل النقل المشترك، إضافةً إلى سلوكيات الأفراد وغياب المعاينة الميكانيكية منذ عام 2022، أسهمت جميعها في ارتفاع معدّلات الحوادث، لا سيّما تلك الناتجة عن الشاحنات.

 

 

 

أما عضو الهيئة الإدارية في "يازا لبنان" إلياس المكاري، فقال لـ"مهارات نيوز" إنّ المشكلة أعمق من مجرّد زحمة سير، فهي مرتبطة بغياب التخطيط العمراني منذ عقود. إذ اقتصرت المشاريع على مبادرات محدودة، مثل جزء صغير في طرابلس أو مشروع جونية المموَّل من الاتحاد الأوروبي عامي 2017 و2018، لكنها توقفت مع أزمة 2019 دون استكمال.

 

بين الترقيع وغياب البدائل

بينما تواصل الدولة تنفيذ حملات تزفيت عشوائية، تُركت البنى التحتية لتنهار، وغابت خطط النقل العام، ما يجعل المواطنين رهينة الازدحام ويكشف عن فشل مستمر في التخطيط وإدارة الطرق.

يلفت عقل، ، إلى أنّ حملات التزفيت التي تُنفَّذ حاليًا لا تترافق مع صيانة للبنى التحتية، ما يؤدي إلى تدهور إضافي في السلامة المرورية. فقد تعرضت الفواصل الحديدية على جوانب الطرق للسرقة والتلف، فيما تعاني الجسور من تآكل وتأخير في الصيانة.

 

ويتفق معه المكاري وإبراهيم على أنّ غياب النقل العام هو جوهر الأزمة. فحتى اليوم، لم يُنفذ أي مشروع لقطارات أو مترو رغم وجود دراسات سابقة، ما جعل الاعتماد شبه كامل على السيارات الخاصة. ففي جونية وحدها تمرّ نحو 250 ألف سيارة يوميًا، ويصل العدد إلى 700 ألف في عطلة نهاية الأسبوع، بينما تشهد بيروت ازدحامًا أكبر نتيجة غياب أي حلول بديلة.

 

البعد الثقافي والاقتصادي للأزمة

تعكس شوارع لبنان المكتظة سيارات المواطنين أكثر من كونها مجرد ازدحام، فهي صورة حية لاعتماد ثقافي واقتصادي راسخ على المركبة الخاصة.

يرى إبراهيم  أنّ الثقافة السائدة في لبنان تعزّز الاعتماد على السيارة الخاصة منذ الصغر، إذ يعتبر المواطن أنّ السيارة جزءًا من حياته اليومية، ما يجعله غير متقبّل لفكرة استخدام الحافلات، خصوصًا في ظل غياب اللامركزية واستمرار تمركز النشاط في بيروت.

 

أما عقل فيُذكّر بأن اللجنة الوطنية للسلامة المرورية، التي عُقد اجتماعها الأخير بعد غياب ست سنوات، أكدت ضرورة إعادة توزيع الموازنات بحيث لا تُخصَّص فقط للتزفيت، بل للصيانة وضبط سرقات الممتلكات العامة. لكن هذه النقاط تبقى مجرّد توصيات على الورق دون أي ترجمة فعلية على الأرض.

 

أزمة النقل: بين الفوضى المرورية وضعف التخطيط

أزمة النقل في لبنان لا تقتصر على الطرق المزدحمة، بل تعكس غياب التخطيط طويل الأمد واعتمادًا مفرطًا على السيارات الخاصة.
وفي حديث خاص مع "مهارات نيوز"، قال د. علي الزين، دكتور في التخطيط المدني وباحث في جامعة ليون، إنّ أزمة النقل في لبنان بنيوية تعود إلى غياب التخطيط والبنية التحتية، فيما الأزمة الاقتصادية فاقمتها فقط. وأوضح أنّ لبنان يُعد من أكثر دول العالم اعتمادًا على السيارات الخاصة بنسبة تصل إلى 90%. ويرى أنّ المطلوب خفض هذه النسبة تدريجيًا إلى 60% عبر تحسين النقل المشترك واسترداد المساحات العامة للأرصفة ومسارات الدراجات.

 

وأشار الزين إلى أنّ الأسر اللبنانية كانت تنفق قبل الأزمة نحو 14% من ميزانيتها على النقل، وهي نسبة مرتفعة، لافتًا إلى أنّ العبء تضاعف بعد الانهيار. كما شدّد على ضرورة وضع خطط طويلة الأمد حتى عام 2050، تشمل إعادة تصميم المدن، دعم وسائل النقل البديلة، وفرض ضرائب تدريجية على السيارات. ولفت أيضًا إلى أنّ معدل الركاب في السيارة لا يتجاوز 1.25 شخص، مقابل 130 في الحافلة و7000 في المترو، ما يفاقم الازدحام.

 

وأضاف أنّ السياحة بدورها تتحوّل إلى عبء بسبب غياب النقل العام، إذ يضطر الزائر للاعتماد على السيارة، ما يرفع الكلفة ويهدر الوقت. وختم بالإشارة إلى أنّ دراسات عدة أُنجزت منذ التسعينيات، بينها مشروع الباص السريع عام 2019، لكنها بقيت بلا تنفيذ نتيجة غياب الإرادة السياسية والحوكمة الرشيدة.

 

قدّمت "مهارات نيوز" طلبًا رسميًا إلى هيئة إدارة السير والآليات والمركبات للحصول على بيانات حول عدد المركبات المسجّلة رسميًا لديها وفقًا لفئاتها. 

 

 

وقد استجابت الهيئة وأرسلت الأرقام المطلوبة، والتي شملت إحصاءات عن الخوادم القديمة (المركبات المسجّلة في السنوات الماضية) والخوادم الحالية (المركبات المسجّلة في السنوات الأخيرة)، إضافةً إلى توزيعها بحسب النوع والوزن، وذلك ضمن إطار طلب المعلومات المقدَّم. وتشير المعطيات إلى أنّ مجموع السيارات المسجّلة بلغ 2,463,748 مركبة، بينها 563,581 آلية عاملة وفقًا للخوادم الحالية و1,900,167 آلية عاملة وفقًا للخوادم القديمة. ويُظهر هذا التوزيع أنّ القسم الأكبر من السيارات يعود إلى سنوات سابقة، فيما يشهد تسجيل المركبات الجديدة تراجعًا ملحوظًا. وبفعل الوضع المعيشي الصعب والأزمات الاقتصادية في لبنان، يمكن ملاحظة هذا الانخفاض كنتيجة مباشرة لتراجع القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع كلفة شراء وصيانة المركبات الجديدة.

 

 

تُظهر هذه االجديدة ايضا أنّ عدد السيارات في لبنان بات يتجاوز القدرة الاستيعابية للبنية التحتية والطرقات، ما يعكس فجوة كبيرة بين توسّع حركة تسجيل المركبات من جهة، وغياب مشاريع نقل عام أو خطط لتحديث شبكة الطرق من جهة أخرى. هذا التناقض يُترجم يوميًا بأزمات ازدحام خانقة وتراجع في مستوى السلامة المرورية.

 

بين تدابير مؤقتة وأزمة مزمنة

بحسب قوى الأمن الداخلي، ومع تفاقم الازدحام المروري خلال موسم الصيف في لبنان نتيجة عودة المغتربين وارتفاع النشاط السياحي، اتُّخذت إجراءات للتخفيف من حدّة الأزمة، أبرزها تعزيز انتشار العناصر على الأوتوسترادات والمفارق، تنظيم سير الشاحنات، تفعيل الإشارات وتطوير غرفة التحكم بكاميرات حديثة. وعلى صعيد البنية التحتية، تعمل وزارة الأشغال على توسعة أوتوستراد جونيه بين نهر الكلب وطبرجا، فيما موّل البنك الدولي تأهيل نحو 600 كلم من الطرق الرئيسية، ما حسّن السلامة المرورية. كما يجري التحضير لإطلاق مشروع النقل السريع (BRT) على أوتوستراد جونيه، إلى جانب تطوير تطبيق ذكي لتزويد المواطنين بمعلومات آنية عن السير. وتستمر حملات التوعية عبر الإعلام والجمعيات مثل "يازا". 

 

مع ذلك، تبقى هذه التدابير محدودة أمام الحاجة لحلول جذرية تقوم على تحديث شامل للبنية التحتية وتطوير النقل العام، خصوصًا في ظل نقاط الضغط الحادة التي تشهدها بيروت الكبرى (كالكرنتينا – الزلقا، نفق سبيرز – جسر الكولا، جسر الرينغ – برج الغزال)، وجبل لبنان (أوتوستراد الضبية – الدورة، نهر الكلب – جونيه)، والشمال (البترون، البحصاص، ساحة النور)، والبقاع (شتورا – ضهر البيدر)، والجنوب (مداخل صور وصيدا)، ما يعكس أزمة شاملة على امتداد البلاد.

 

بعد عقود من الهدر وسوء الإدارة، يتبيّن أنّ أزمة السير في لبنان ليست مشكلة تقنية فحسب، بل انعكاس مباشر لغياب الرؤية الوطنية والتخطيط العمراني المستدام. فالتمويل موجود لكن يُهدر، الدراسات متوفرة لكن تبقى معلّقة، والأولويات تُدار وفق المحاصصة السياسية لا وفق الحاجات الفعلية.

 

النتيجة: شوارع خانقة، اقتصاد متضرر، ومواطن يدفع الثمن من وقته وصحته. والمطلوب اليوم ليس مزيدًا من "التزفيت" ولا مبادرات متقطّعة، بل قرار سياسي جريء يضع استراتيجية وطنية متكاملة للنقل العام، كشرط أساسي لأي نهوض اقتصادي وتنموي، وفرصة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.