Loading...

رغيفٌ في مهبّ القحط: سنواتُ لبنانَ العجافِ بدأت

 

تطفأ أفران البلاد حرّاقاتها بشكل مجتزأ منذ مطلع شهر آب، مُعلنةً شحّ الرغيف. فلا مازوت مدعوم يعيل هذه الأفران على انتاج خبزها العربي، ما خلا كمياتٍ قليلة من هذه المادة تستحصلها من الأجهزة المعنية بالقطّارة. أزمة الخبز هذه ليست أولى الأزمات المعيشية التي تلاقي الشعب اللبناني الذي بدوره اعتاد "ارتياد" الطوابير، لكنها وللأسف هي الأزمة الأعنف. فما أحقرَ أن يحاصَر شعبٌ بأكمله في كفاف يومه حتى! إذاً، طابورٌ جديد يلاقي أمّتنا اليوم ليزداد رصيدها من الطوابير المُذِلة. فهي وإن تحاشت الذّل، لاقتها أيادِ سوداء لسوقٍ سوداء متربّصةٍ بأرزاق البلاد والعباد. ولو أنها أشهر حربٍ ثقال لهانت، لكنها أشدّ وطأة! يحارِب اللبنانيون من أجل قوت يومهم، من أجل الخبز والدواء والوقود والكهرباء، من أجل حقوقٍ بديهية في باقي أصقاع الأرض.
 
تتشابه رواية القحط اللبناني اليوم بأخرى مصرية من زمن الأنبياء، مع تناقضٍ تام في التداعيات والأحداث. لبنانيّاً، لم نكن بحاجة لنبيٍ كيوسف يؤوّل الأحلام فيكشف لنا عَجف الأيّام الراهنة، إنّما كان المسلك واضحًا وموحشًا منذ البداية، عبّدته وعودٌ فضفاضة وحلولٌ آنية المسعى. وعلى مرّ الأيّام، بدأ مخزون مادة المازوت للأفران، في الآبار والخزانات، يفرغ تدريجيًا، فنراه ينعكس في الوقت الحالي سلبًا على كمية الخبز العربي الضئيلة المنتجة أسبوعيًا. يوثّق ممثل أصحاب الأفران في الجنوب محمد حجازي أزمة الأفران بمشكلتين أساسيتين: المشكلة الأولى تتمثل بفقدان الأفران لمادة المازوت المدعومة، والمشكلة الثانية تتمثل بفقدان المطاحن أيضاً لهذه المادة، فباتت تنتج 70% فحسب من مجمل انتاجها للطحين، ما فاقم أزمة الأفران. كما أنّ لأزمة الكهرباء أثراً بالغاً على شحّ المادة المدعومة، لأنّ المولّدات الخاصّة أخذت المازوت من درب الأفران وفقًا لحجازي.
 
تهافتٌ على الرغيف
على وقع الذّل والغلاء، يتهافت المواطنون اليوم لتخزين ما تيسّر من الخبز العربي خشية انقطاعه. شأن أزمة الرغيف كشأن ما سبقها من أزماتٍ معيشية، تتفاقم بتفاقم الهول والتخويف. وحده العوز يبرّر التهافت الكبير هذا، إذ تجد من كل عائلةٍ شخصين أو أكثر يقفون ضمن طابور الخبز طمعًا بحصة أكبر تكفيهم لأيام. ومن داخل الأفران، تلاقيك حكايا الناس وشحّ الرغيف.
 
تروي امرأة خمسينية تجربتها مع هذه الأزمة موضحةً أنها تضطر أحياناً الى اقتسام ربطة الخبز مع جارتها ريثما تتدبّر الأخرى أمرها. ويشرح ربّ أسرةٍ اضطراره الى شراء أصناف أخرى من المخبوزات ليطعم صغاره. كما تشير فتاة في مقتبل عمرها الى سعي والدتها لتخفيف حاجة الأسرة للخبز العربي بتحضير أصناف المعكرونة والأرز وغيرها من النشويات... الموظفون في صالة العرض ملّوا سؤال الناس عن الخبز العربي، فاستعاضوا عن الكلام برفع الحاجبين: لا خبز اليوم يقيتكم.
 
من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، مشاهد طوابير الخبز واحدة في المناطق اللبنانية. لكن ما اختلف فعلًا هو قدرة كل فرنٍ على تدبّر أمره والصمود لأطول فترةٍ ممكنة. وهنا تطال الشكوك حصص بعض الأفران من المازوت المدعوم، إذ يسأل صاحب أفران الرمل في منطقة صور فضل بحر قائلًا:" لماذا لم تقفل الأفران الكبرى في منطقة خلدة حتى الآن لساعة واحدة بينما لم نستطع نحن أن ننتج الخبز العربي هذا الشهر إلّا لأيامٍ معدودة ؟ من أين لها هذا ؟" واعتبر بحر أن الخاسر الأبرز في هذه الأزمة هي الأفران العادية والصغيرة التي لم تحظَ بحقها من مادة المازوت المدعومة. بناءً على ذلك، يبرر حجازي هذه المسألة بأنّ حصة الأفران من المازوت في الأفران الكبرى في منطقة خلدة أكبر وفقًا للكمية المنتجة يوميًا، وهي أيضاً توقف البيع بالجملة، مشغّلةً خط أو خطين للخبز العربي في الوقت الذي تملك هذه الأفران 11 خطاً مخصصاً لهذا الخبز.
 
داخل صالات العرض، يحتجّ المواطنون على وجود كميات كبيرة من المنتجات المخبوزة بينما الخبز العربي مفقود. يعلل ذلك مدير أفران شمسين في صور أحمد علي بإعطاء مثال توضيحي عن مدى استهلاك حرّاقات الخبز العربي للمازوت: "تبلغ حاجتنا اليومية من المازوت لانتاج الخبز العربي 3300 ليتر بينما الكمية نفسها تكفينا لأسبوع كامل لتشغيل المولدات الكهربائية وانتاج باقي المنتوجات المخبوزة، إذ أنّ كل حرّاق للخبز العربي يستهلك  41 ليتراً من المازوت في الساعة ويحتاج الى حوالى 360 ليتراً من المازوت لإنضاج أوّل رغيف خبزٍ بعد إحماء الفرن". لا يخفي علي غضب الناس واستيائهم من الأوضاع المعيشية الصعبة. فقد تكررت في الآونة الأخيرة حوادث الشتم والسباب والتعديات على الموظفين وقد وصلت في إحدى المرات الى حدّ اشهار السلاح. أمّا الخطر الأكبر في نظر علي، فيتمثّل في ايصال مادة المازوت المدعوم ليلًا الى الفرن، إذ أن صهريج المازوت يحتاج الى حماية أمنية لنقله من بيروت الى صور. ويضيف: "لو أننا ننقل صواريخ لكان الموقف أرحم".
 
درءاً للشك والتخوين، ينوّه حجازي بدوره الى حاجة كل صنف: "تحتاج الحلويات الى كهرباء ويحتاج خبز التنور والشوفان الى الغاز. أما الخبز الإفرنجي، فهو يُخبز على المازوت ولا يستهلك أكثر من 70 ليتر في النهار نظرًا لأنّ حرّاق فرنه صغير الحجم. عدا عن ذلك، يصنّف الخبز الإفرنجي من ضمن الكماليات، ما يسمح للأفران التحكم بسعره ويدفعها لتأمين المازوت له من السوق السوداء". أمّا عن الخبز العربي، فيشير حجازي الى أنّه في حال حاولت الأفران تأمين المازوت من السوق السوداء، ستزيد كلفة كل ربطة 2000 ليرة وهذا غير جائز: "لا يمكننا أن نشرّع السوق السوداء على حساب لقمة المواطن، ما يجبرنا أن نحمّل كل جهة معنية مسؤوليتها". وأكّد حجازي على التواصل الدائم مع وزارة الاقتصاد والتجارة بالدرجة الأولى، ومع باقي المعنيين في المنطقة من بلديات واتحادات وأطراف حزبية لاحتواء المشكلة.
 
سوقٌ سوداء تنهش جيب المواطن
على مرّ الويلات، يبقى الاحتكار سيّد الأزمات، فحتى رغيف الخبز لم يسلم من جشع السوق السوداء، وما أكثر ضحاياها. من مرجعيون، تتذمّر رانيا شيت من اضطرارها لشراء ربطة الخبز بـ6 آلاف ليرة لبنانية. ومن عكّار، توثّق راغدة الزين جشع التجّار قائلة: "نشتري ربطة الخبز على أنها "دوبل" بينما لا تزيد إلاّ رغيفين لا أكثر وبسعرٍ مضاعف طبعًا". أمّا على لسان أحد المحتكرين، فيقول:"أشتري ربطة الخبز بـ10 آلاف ليرة لأبيعها للزبون بـ11 ألف ليرة، فأربح ألف ليرة فقط، ما عم بتوفّي بقى". ويؤكّد ممثل أصحاب الأفران في الجنوب أنّ لا دخل للأفران بهذه الأسعار، إنّما تتعمّد بعض المحال التجارية احتكار الخبز وبيعه بأسعار مرتفعة. وأمام هذه المعضلة اللاأخلاقية، تقف الدولة اللبنانية عاجزةً في ظل ضعف أجهزتها الرقابية وغياب الحلول الجذرية.
 
الأذونات شيك بلا رصيد
حاولت وزارة الاقتصاد تدارك الأزمة بأذوناتٍ أو بوناتٍ تخوّل الأفران الحصول على مادة المازوت وفق آليةٍ تحددها وزارة الطاقة. بيد أنّ هذه البونات أضحت مجرد شيكات بلا رصيد تصطد بشحّ هذه المادة وفقدانها، وهذا ما يبرر لوزارة الطاقة عدم صرفها. يوضح حجازي أنّ أوّل بونين منها صُرفا، لكن البون الأخير لم تصرفه وزارة الطاقة بحجة شح المازوت. وفي تفاصيل حول هذه البونات، تعطى الأخيرة للأفران حسب انتاجية كل فرن، على أن توازي قيمة كل بون كمية المازوت المستهلك يوميًا لانتاج الخبز العربي فحسب، دون احتساب حاجة باقي المنتجات المخبوزة أو المولدات الكهربائية من المازوت، فهي خارج نطاق الدعم.
 
على أثر عدم صرف البونات، تعمد وزارة الاقتصاد اليوم الى تأمين نسب ضئيلة من المازوت المدعوم بالتعامل مع شركات المحروقات. يفيد حجازي بأنه تسلّم منذ أيام كميات المازوت المخصصة للجنوب بأكمله، وهي 27795 ليتر من احدى الشركات المستوردة للنفط، موضحًا أنها لا تكفي لحاجة نهار واحد، على أن يتسلّم بقية الكمية في الأيام المقبلة. ويحكى عن امكان احدى الشركات استيراد باخرة محملة بالمازوت لتكون اولوية التوزيع للأفران والمطاحن والمستشفيات.
لكن ماذا عن توزيع الخبز على مختلف المناطق والمحال؟ هل من بنزين مدعوم لهذا الغرض؟ وعليه، يعتبر حجازي أنّ الدولة اللبنانية مُلزمة بإعداد سلّة متكاملة من الحلول قبل فرض أي تسعيرة على الأفران. وفي حال رُفع الدعم كليًّا، سيبقى سعر ربطة الخبز 1$، إنما وفق سعر الصرف اليومي لليرة اللبنانيةّ!
 
يوماً بعد يوم، تطول لائحة المفقودات في لبنان: لا بنزين ولا دواء ولا حليب ولا مازوت ولا كهرباء، وآخر الويلات تمثّلت بانقطاع الرغيف. خلاصة الحال، لا خير نستبشره للأيام المقبلة ما دام الواقع يكسوه اليأس والحرمان، لكن يبقى للمواطن بصيص أملٍ بحلحلة سياسية تفرمل الانهيار الكبير: إذًا فلنصلي لمعجزة!

TAG : ,خبز ,أزمة الخبز ,أزمة المازوت ,مازوت ,أفران ,رغيف الخبز ,طوابير الذل ,الأزمات المعيشية